الحقيقة أن اللامركزية لا تخلق نظامًا جديدًا أو تنشئ دولة حديثة فحسب، وإنما تصنع شعبًا متحضرًا قادرًا على المشاركة في رفع شراع الوطن أولًا ومقاومة الرياح العاصفة بمجتمعه وبيئته التي يعيش فيها في المقام الثاني.. والمفترض دائمًا قبل تجديد البناء أن نزيل الأطلال القديمة التي تشغل موضع هذا البناء، وقياسًا على ذلك فإن ترسيخ مصطلح اللامركزية يجب أن تسبقه عدة إزالات للمركزية التي سيطرت علي عقول الناس في العقود الماضية، المركزية التي قتلت ذاتية الإنسان وكونه عنصرًا مستقلًا وفعالًا في بيئته ثم حولته إلي اللاشئ الذي لا يستشعر فعاليته في تغيير واقعه أو في حل مشكلاته وسد غرائزه، بل أصبحت حاجاته كلها رهنًا لملاحظة الحكومة المركزية وسعيها نحو توفير هذه الحاجات، فإذا انتبهت ووفرتها كان بها وإلا فإن الإنسان يظل عاجزًا عن فعل أي شئ لنفسه.. لابد حقًا أن نمحو من ذاكرة هذا المواطن كل ما عَلِق فيها من ذلك الفساد، وما ارتبط بذهنه من مجالس محلية صورية لا تفعل شيئًا حقيقيًا ملموسًا للمواطنين، وما ترسخ بداخله من كونه كائنًا ضعيفًا غير فعال في مجتمعه. ولذلك فقبل أن نتكلم عن اللامركزية كنظام يعادل الحكم المحلي والذي يجعل من وجوده شيئًا فارقًا في مستقبل هذا الوطن، وقبل أن نتكلم عن اللامركزية كفلسفة تمهد للديمقراطية وفتح أبواب المشاركة وخلق جيل سياسي مسؤول وقادر على الإدارة، فلابد أن نتكلم أيضًا عن اللامركزية كوسيلة لتغير الناس وتحديث أفكارهم حول مستقبل مصر ومستقبلهم في بناء مصر..
قبل عشر سنوات وطيلة الفترات التي تواجدت فيها المحليات المنتخبة، كانت أفكار الناس منقوصةً ومعايير اختيارهم للشخص الذي يمثلهم في المجالس المحلية عشوائيةً تتناسب مع الوضع الصوري الغير مستقل للمجالس المحلية والثقافة الشبه منعدمة حول أهمية هذه المجالس، وقد آن لهذه المعايير أن تتغير جذريًا من عقول الناس في خطوة حتمية الحدوث لنفهم طبيعة ما نتهيأ له، لأن استيعاب الموقف من جميع فصائل المجتمع جزء ضروري لإيجاد الحل والعمل على سرعة التنفيذ، بينما يتسبب العمل بمعزل عن الجمهور في صعوبة التنفيذ خاصة عندما تكتشف أنك وضعت خطة جيدةً لكنها غير مفهومة أصلًا ولا تمثل فارقًا عند جموع الناس.
السؤال الذي يجب علي الإعلام التركيز عليه في الفترة القادمة وبشكل يوازي الجهود التشريعية لصياغة قانون المحليات والتحول نحو اللامركزية هو: هل يعرف الجمهور الفرق بين نظام المحليات السابق وبين النظام الذي يجري العمل عليه الآن؟ لأن هذه المعرفة يترتب عليها طريقة تفكيره والمعايير التي سيختار بناءً عليها، في الماضي كان العضو في المجلس المحلي لا يتعدى كونه واسطةً بين الناس وبين السلطة التنفيذية، ولذلك كانت معايير اختيار الناس له تتلخص في كلمة "خدوم"، بمعني أنهم لا يختارون الشخص إلا لأنه خدوم فقط، ربما وهو ليس ملمًا بطبيعة العمل ولا بطريقة الإدارة، ذلك الشخص السطحي الذي كان يُستخدم دائمًا كأداة تتحرك وفق أهواء السلطة التنفيذية. هذا المعيار وحده لم يعد كافيًا لاختيار الأعضاء في الفترات القادمة، لأن اللامركزية تعني أن هذه الأعضاء ستكون مسؤولة وقادرة علي الإدارة ولها من الصلاحيات الاقتصادية والمالية ما يتطلب منها قدرة فائقة على العمل والتخطيط ووضع رؤية قوية تساعد على خلق تغيير جذري في مجتمعهم، وإلا أصبحت اللامركزية سلطةً في أيدي أشخاص غير مؤهلين لا يعرفون شيئًا أكثر من فنون إصلاح مواسير المياه والعمل على بعض المشكلات البديهية وحلها بشكل مؤقت وغير مدروس، كما كنا نشاهد قبل ذلك في الحلول المؤقتة السطحية التي تقضي على المشكلة لعدة شهور ثم لا تلبث أن تعود مجددًا، كمشكلة القمامة وغيرها، ولا شك أن هذا الأسلوب من التفكير الوقتي ينجم عن أشخاص ليس لديهم رؤي حقيقية فعالة وإنما جري اختيارهم بُناءً على صفات شخصية بسيطة مثل كونه خدومًا أو محبوبًا..
من واجبنا جميعًا أن نساعد علي تغيير هذه الموروثات القديمة في عقول الناس حتي يصل إلى هذه المناصب من يستحقونها فقط، ولتقوم الناس بدعم هذا التحول الجذري الذي نأمله ومراعاة أهميته ومتطلباته، فتكون خطوةً مضمونة لإنشاء جيل جديد قادر على المشاركة وإحداث نقلة حقيقية في مفهوم الديمقراطية والإدارة المحلية..
في هذا التوقيت نطالب البرلمان بمناقشة التعديلات المقترحة من قبل المعارضة وضرورة التمسك باللامركزية باعتبارها ضرورة لا تقبل التأجيل أو المساومة، كما نؤكد علي ضرورة تأهيل الشباب لهذه المناصب والعمل على زيادة الوعي بين أفراد الشعب لفهم طبيعة هذه المتغيرات، فكما نحث علي ضرورة الحديث مع الناس حول أهمية هذا التحول، لابد أيضًا من تأهيل الشباب حتي يجد الناس اختيارًا قويًا يلتفتون حوله، ولذا فإن اقتراح إنشاء أكاديمية لتدريب الشباب حول القيادة المحلية بات حتميًا لاستكمال المعادلة وتحقيق نتائج جيدة..