حظيت الحركة المباركة -كما كان أطلق عليها محمد نجيب- بدعم شعبى تنظيمى من جانب الجماعات الراديكالية، وعلى رأسها جماعة الإخوان خلال الأشهر الأولى لقيام ثورة يوليو، يُضاف إلى ذلك الدعم الشعبى العام الذى حظيت به الحركة، فقد استقبلها المصريون الطامحون إلى تغيير الأوضاع التى سادت قبل 52 بالبشر والأمل فى مستقبل أفضل، يحققون فيه حلم الدولة القوية الذى كان يداعب مخيلتهم منذ أيام محمد على الكبير، لكن سرعان ما تغيّرت الأمور، فوقع الصدام الدامى بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة، بالإضافة إلى الصدام مع مصر الفتاة، والحركات الشيوعية، وفلول نظام ما قبل يوليو، فانسحبت هذه الكتل من معسكر التأييد إلى معسكر المعارضة، ثم بدأ صوتها يخبو شيئاً فشيئاً. وأسهمت الأحكام الصادرة عن محكمة الشعب ضد من اتهمتهم الثورة ب«التآمر» عليها فى دفع المواطن العادى إلى الحذر والاحتياط من إبداء أى نوع من الامتعاض إزاء ما يحدث، وبمرور الوقت بدأت الأوضاع فى الهدوء شيئاً فشيئاً، وتمكن جمال عبدالناصر من جمع كل الخيوط فى يده، وأصبح الرجل الأقوى فى الدولة. كان «عبدالناصر» واعياً بأهمية وجود ظهير شعبى داعم له، بعد أن تخلص من كل القوى التنظيمية التى شكلت سنداً شعبياً للثورة خلال الأشهر الأولى لقيامها. أنشأ هيئة التحرير كتنظيم شعبى يستهدف حشد الجماهير وراء السلطة الجديدة، لكنه لم يحقق الهدف بصورة ترضى جمال عبدالناصر، فلجأ إلى أسلوب جديد، يمكن وصفه بأسلوب «القرارات الشعبية». اتخذ «عبدالناصر» مجموعة من القرارات التى تمنح المواطن «مصالح مباشرة» فى يده. من بينها على سبيل المثال: قانون الإصلاح الزراعى (سبتمبر 1952)، الذى يقضى بوضع سقف لملكية الأراضى الزراعية (200 فدان)، وسحب ما يزيد على ذلك وتوزيعه على صغار الفلاحين، بحيث يكون لكل منهم ملكية صغيرة لا تقل عن فدانين، ولا تزيد على 5 أفدنة، وبعد صدور هذا القانون بأيام اتخذ قراراً بتخفيض إيجار المساكن والمحال التجارية بمقدار 15%، أضف إلى ذلك القرارات اللاحقة المتعلقة بالعمال (يوليو 1961) والقرارات المتعلقة بمجانية التعليم وإلزام الدولة بتعيين الخريجين وغيرها. أسهمت هذه القرارات فى خلق شعبية جارفة لجمال عبدالناصر لدى فئات ثلاث: العمال والفلاحين والموظفين. وكرّست فكرة «الدولة الراعية» التى تُلزم نفسها برعاية المواطن والانتصار لاحتياجاته اليومية، ورغم وجاهة فكرة «الدولة الراعية» وأهميتها بالنسبة للفئات الأضعف قدرة على القيام بمتطلبات الحياة إلا أن التوسّع فيها بهدف توسيع الشعبية أدى إلى خلق طبقة ضخمة من «المواطنين الاتكاليين»، أى الذين يعتمدون على الدولة فى أكلهم وشربهم وتعليمهم والحصول على الوظائف وقبض المرتبات آخر الشهر، بغض النظر عن مستوى الأداء. وكانت النتيجة تراجع روح «الاجتهاد الفردى» وسيطرة إحساس نفسى خطير على المصريين، اعتبروا فيه أنفسهم «عيال الدولة»، وعاملوها كما يعامل الأبناء آباءهم الذين يوفرون لهم احتياجات الحياة، مقابل الطاعة والأدب والالتزام وعدم رفع الصوت فى حضرة الأب، سواء بدافع الخوف أو المحبة المؤسسة على ما يمنحه لهم من مصالح صغيرة.