حاول "جراهام بيل" أن يشجع الأديب الأمريكي "مارك توين" على الاستثمار في شركة الهاتف وأوضح له أن الاختراع الجديد جعل الاتصال ممكنًا بين المدن المختلفة، ولكنه رفض الاهتمام بالفكرة واكتفى بالانشغال بكتابة روايته الرائعة "مغامرات هكلبيري فين". للأسف كان الرجل الذي امتلأت رواياته بالإبداع محدود الخيال حينما رفض الاستثمار في شركة الهاتف لأنها سرعان ما حققت نجاحًا كبيرًا، وبعد مائة عام بالضبط من صدور الرواية المذكورة وُلد الأمريكي "مارك زوركربيرغ"، مخترع فيسبوك، الذي جعل الاتصال ممكنًا بين القارات المختلفة. الموقع بات يتابعه أكثر من ربع سكان الكوكب لذلك فإن التعديلات الأخيرة التي أُعلن عن البدء في إجرائها خلال الشهور القليلة القادمة، وتتعلق بتغيير نظام ظهور المنشورات ليكون التركيز الأكبر على أنشطة الأصدقاء بدلًا من منشورات العلامات التجارية ووسائل الإعلام، لابد أن تجذب الاهتمام لدراستها وتحليل أبعادها والحديث بشأنها. صدر بيان الموقع في الحادى عشر من يناير الجاري ليثير مخاوف وسط أصحاب العلامات التجارية الذين يعتمدون على الموقع في الدعاية لأعمالهم وزيادة زيارات مواقعهم الإلكترونية لجني الأرباح، ولكن قبل صدوره بمائة عام لم تكن المخاوف الأكثر رعبًا تتعلق بقطاع الدعاية ولكن بالقطاع الصحي وتحديدًا تشخيص إصابة أحدهم بمرض "السكري"، وهو "الشبح" الذي ظل جاثمًا على صدور المرضى، حتى تم الإعلان عن أول تجربة ناجحة للعلاج بالأنسولين في الحادى عشر من يناير مع بدايات الربع الأول من القرن العشرين. التعديلات لها تأثيرات وأبعاد مختلفة منها ما يتعلق بزيادة حجم الإنفاق الإعلاني، وأهمية اقتراب العلامات التجارية من منصات جماهيرية أخرى، وتقليل فترات تواجد المستخدم على الموقع وغيرها.. ولكنني سأتناول الحديث عن نقطة وحيدة وهي فلسفة التعامل مع الموقع في ضوء رؤيته المستقبلية. قبل أكثر من شهر نُشر مقال لمدير الأبحاث الخاصة بتطبيق فيسبوك "ديفيد جونسبرغ"، كتبه بالتعاون مع متخصص في علم النفس الاجتماعي لديه دراسات حول تأثير الإنترنت على حياة المستخدمين وحمل المقال عنوانًا صادمًا (هل تمضية الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي مؤذي لنا؟). في المقال عبارات استوقفتني كونها توضح الرؤية المستقبلية للموقع: (لدينا قلق حول قضاء الكثير من الوقت على هواتفنا فيما ينبغي أن نُولي اهتمامًا أكبر لأسرنا).. (القدرة على التواصل مع الأقارب والأصدقاء هو ما جذب الكثير منا إلى فيسبوك في المقام الأول، ومن المؤكد أن البقاء على اتصال مع أحبائنا يعني جلب الفرح وتعزيز إحساسنا بالمجتمع). بنهاية الأمر يبدو أن الموقع لن يهتم بفترة تواجد المستخدم قدر زيادة تفاعله مع الأمور القريبة منه أو التي يهتم بنشرها أصدقائه لذلك قد يكون واجبًا أن تتوقف وسائل الإعلام عن التعامل مع الموقع باعتباره "سوق" جديد لعرض بضائع قديمة تم إنتاجها بالأساس لقارئ الجريدة الورقية أو مُشاهد التليفزيون، على أن تبدأ في إنتاج المحتوى بشكل حصري وبطريقة تتلائم مع طبيعة جمهور الموقع واهتماماته ونمط تلقيه وطريقة تفاعله خاصة عبر الهاتف المحمول. قد يكون الأمر شاق أو مُكلف في البداية لكنه يستحق العناء والاستثمار لأنه سينعكس إيجابيًا في شكل محتوى إبداعي قادر على تحقيق المزيد من الاهتمام وبالتالي زيادة الأرباح للعلامات التجارية ووسائل الإعلام. مع الوقت ستتحول التعديلات من مخاوف مرضية إلى حقنة "الأنسولين" الضرورية لعلاج موقع امتلأ بالأخبار المغلوطة والصفحات الضارة والعلامات التجارية والسلع التي جعلته يتحول من "مقهى" للقاء الأصدقاء إلى "سوق" لعرض البضائع.