اليوم أكتب عن ظاهرة الحكومات العسكرية التى تكاد تنقرض فى معظم الدول بعد أن كانت منتشرة فى النصف الثانى من القرن العشرين. جوهر هذا الحكم هو تحكم مجموعة من العسكريين فى مفاصل الدولة سياسيا واقتصاديا، إما بشكل مباشر أو من وراء ستار، مع وجود واجهات شكلية (وربما رئيس منتخب لكن بصلاحيات مقيدة)، وضعف حكم القانون ودولة المؤسسات. يصل العسكريون إلى السلطة بانقلابات عسكرية سافرة أو مستترة. فى أمريكا اللاتينية انتشرت ظاهرة تحكم مجالس عسكرية جماعية (junta) فى الشأن السياسى، أما فى الدول العربية والأفريقية فقد سيطر شخص عسكرى واحد على المشهد، فبعد الانقلاب ينجح هذا الشخص فى إزاحة رفاقه وينفرد بالسلطة. فى معظم الحالات لا يحكم العسكريون إلا فى ظل قوانين استثنائية أو حالات الطوارئ، وهم يستخدمون القضاء العسكرى لمحاكمة معارضيهم صوريا، ولا يحترمون حقوق الإنسان، ولا يقبلون الرأى المعارض، ويظنون أن غير العسكريين غير صالحين لإدارة البلاد، وعادة يسيطر العسكريون على أدوات التأثير على العقول من إعلام وصحافة ويوجدون بجانبهم مثقفين تابعين، وفى معظم الحالات يخلع العسكريون بدلهم العسكرية ويتحولون إلى مدنيين ويستعينون بوزراء تكنوقراط وذلك كله بهدف إظهار واجهة مدنية شكلية. وفى بعض الحالات تُستغل أوضاع إقليمية أو دولية للترويج لاستمرار العسكريين، وعادة ما تحصل الحكومات العسكرية على دعم قوى خارجية، ولأمريكا تاريخ طويل فى دعم العسكريين بشكل مباشر أو مستتر، كما حدث بأمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، وذلك بحجة صد الشيوعية أو الإسلام السياسى أو لضمان استمرار تدفق السلاح الأمريكى، وفى حالات كثيرة شجعت أمريكا تفجير الأوضاع وإشعال الحروب لضمان استمرار هذه الأوضاع، الأمر الذى يؤدى إلى انقسام الجيوش ذاتها. النتائج السلبية لهذا النوع من الحكم كثيرة، أولاها فشل العسكريين فى إدارة بلدانهم سياسيا واقتصاديا، والاستثناءات موجودة ولكنها قليلة، والأسوأ هو أن الحكم العسكرى غالبا ما يتطور إلى نظم حكم مطلقة يسيطر عليها شخص واحد مع استمرار هيمنة العسكريين، ومع ضعف القانون ووجود مؤسسة غير منتخبة فوق مؤسسات الدولة المنتخبة بشكل صورى وانتخابات غير ديمقراطية، يتم ترسيخ الاستبداد والفساد. لايغادر العسكريون السلطة إلا بثورة شعبية وتظاهرات ضخمة تدفعهم إلى التنازل، كما حدث فى كوريا الجنوبية وفى بعض الدول الأفريقية، أو بعد هزيمة عسكرية مذلة فى حروب إقليمية كما فى اليونان والأرجنتين، وفى بعض حالات الانتقال الديمقراطى ظهرت قيادات عسكرية أدركت سنن الكون وانحازت لصفوف الشعب، كما حدث فى الفلبين والسودان وموريتانيا، وفى البرازيل انقسم الجيش بين مؤيد لعودة الحكم المدنى ومؤيد لاستمرار العسكر، وانتصر، بعد صراع دام نحو 12 عاما، الحكم المدنى الديمقراطى. موقف المؤسسة العسكرية من التحول الديمقراطى موقف مهم وحاسم للنجاح، فإما تنحاز للديمقراطية والانتقال لها بمسار محدد وحقيقى، وإما تقف ضدها، وقد كشفت حالات الانتقال أن معظم من تحدث كثيرا عن أنه مع الديمقراطية لم يلتزم بتعهداته، كما كشفت أيضا أن التغيير مسألة وقت متى بدأ التحرك الشعبى نحو الديمقراطية ومتى انكسر حاجز الخوف، إن محاولات إعادة التاريخ إلى الوراء مآلها الفشل، ومقاومة العسكريين للتغيير لن تؤدى إلا إلى تأخير التحول ورفع التكلفة التى تدفعها الشعوب لنيل حرياتها وبناء دولة المؤسسات الديمقراطية، وللحديث بقية.