صديقى القارئ العَسّول.. اسمح لى أدخل معاك «وِش» وأحكيلك على السريع تفاصيل واقعة عشتها، ثم أحدّثك عن دلالاتها، التى أرى أنها المَخْرَج والملاذ الآمن مما نعيشه الآن من سواد أسْوَد من السواد، حتى نُحْكِم الحصار حول عقولنا التى أوشكت على مغادرة رؤوسنا إلى غير رجعة. ذات مساء كنت عائداً من القاهرة إلى الزقازيق بالقطار، ورفض الكمسارى أن يقطع لى نصف تذكرة على كارنيه نقابة الصحفيين ضارباً بتعليمات هيئة السكك الحديدية عرض الحائط، فرفضت بدورى وتمسكت بحقى ولتُرَق دونه الدماء.. احتجز الكمسارى الكارنيه وقرر تسليمى لضابط محطة الزقازيق.. وصلنا الزقازيق ودخلنا على الضابط.. استمع إلى الكمسارى أولاً باعتباره موظفاً عمومياً بالدولة، وأنا مجرد مواطن عمومى.. أفسح الباشا للكمسارى مساحة كبيرة من الوقت ليقول ما يشاء، ثم أشار إلىَّ آمراً لى بالحديث.. قلت له لقد سافرت مئات المرات بنصف تذكرة على الكارنيه حسب تعليمات الهيئة.. تناول الضابط الكارنيه من الكمسارى، وطفق يقلب فيه ويتفرس فى وجهى فأحسست أنه تأكد أننى صاحبه فانشرحت وتوسمت خيراً، ثم باغتنى بسؤال غريب قائلاً كارنيه إيه ده؟!.. عندئذ تأكدت أن الحارة سَد، وأنه قد عقد العزم على النيل من كرامتى، فقلت فى نفسى يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم، وأن الموضوع تأزم ولن ينتهى نهاية طبيعية، يعنى باختصار ليلة سودا، وطالما ليلة سودا فلا مَخْرَجَ من سوادها إلا بالفانتازيا.. فسألت الضابط: بتقول إيه سيادتك؟ قال ولكن بصوت «جَعُورى» هذه المرة «إنت مابتسمعش؟ كارنيه إيه ده؟».. فقلت مابِدّهاش، ثم اعتدلت وأرخيت جفونى وسبّلت عينَىّ وغنيت له: كل دا «كارنيه» لما شفت عينيه.. وكانت المفاجأة التى أذهلتنى.. انفجر الضابط فى نوبة ضحك كادت تقضى على حياته بعدما قَطَع النَّفَس، ثم نهض واقفاً وسلمنى الكارنيه وهو يقول مع السلامة يا باشا، وانصرفت وعَدّت الليلة. صديقى القارئ الجميل.. لقد قصدت بتلك القصة التأكيد على أن الفانتازيا قد تكون طوق النجاة من المآزق والمهالك.. والفانتازيا باختصار هى نمط سلوكى أو سَرْدى خارج المنطق والمعقول، لكنه ينطلق من قلب الواقع إذا ما بلغ حالة الانسداد أو ما نطلق عليه المأزق والأزمة المستعصية على الحل.. الفانتازيا ليست هروبا من الواقع ، بقدر ما هى حالة استغراق فيه بكامل الوعى والإدراك، لأنها ببساطة رفض لكل تفاصيل الواقع الكئيب وسقطاته، هى فلاشات كاشفة لمواضع الخلل أو للعصا التى تعرقل دوران العجلة.. (حلوين الشويتين اللى فاتوا دول.. أليس كذلك؟).. على أى حال ما أريد الوصول إليه نصيحة غالية.. إضربها صرمة تعيش مرتاح، وأظن أن نظرية كل دا كان ليه، هى المذكرة التفسيرية الناجزة لفانتازيا ضرب الصرمة ولا مؤاخذة. صدفة غريبة.. وأنا انتهى من كتابة المقال، يصلنى صوت نجيب الريحانى يغنى عينى بِتْرِفْ وراسى بِتْلِفْ وعَقلى فاضِل له دقيقة ويخِفْ!.. شَكْلها ساحِت والعوض على الله.