حتى لا نتهم بالسلبية ننهى الموضوع بوصف ما نعتبره بدايات للنهوض الجاد فى مصر. يقيناً سيتطلب النهوض وإقامة العدل فى مصر موارد أكبر مما يخصصه الحكم التسلطى لغاية احترام حقوق المصريين كافة، خاصة فى الصحة واكتساب المعرفة وفرص العمل الجيد والأمان الاجتماعى؛ من خلال دعم وتنمية الطاقات الإنتاجية للاقتصاد وترقية الإنتاجية، وليس اختزال الاقتصاد فى بورصة الأوراق المالية كما ابتدعت عصبة مجلس السياسات فى الحزب الساقط المنحل؛ بما يؤدى إلى خلق فرص عمل جيدة كافية لمقاومة البطالة بفعالية؛ وتقديم خدمات راقية فى التعليم والرعاية الصحية، واحترام الحريات وتقديم الدعم الجاد للابتكار والإبداع بما يحفز زيادة الإنتاجية وإنتاج المعرفة؛ وقيام شبكة أمان اجتماعى كفء تضمن الحياة الكريمة لجميع المستضعفين، خاصة فى العجز والشيخوخة المانعين من العمل. هذه المقاصد النبيلة لم يكن يتاح لها فى ظل الحكم التسلطى الساقط إلا فتات موارد نظام الفساد والاستبداد التى لم تورث عامة المصريين إلا الفاقة والظلم، بينما أغدقت على عصابة شلة الحاكم المتسلط الفاسدة وأغراضها الدنيئة. وفيما يلى مقترحات بإجراءات محددة لعكس المسار الراهن وصولاً لنهضة إنسانية فى مصر: مشروع حقيقى للنهضة، وليس طائرا خرافيا طار بعيدا مختطفا أحلام المصريين فى مستقبل كريم، يقوم على الاستثمار فى أغلى ثروات مصر، أى المصريين أنفسهم، بالرعاية الصحية والتعليم الجيدين والمناخ المواتى والمؤسسات المجتمعية الكفيلة بدعم الابتكار والإبداع والبحث العلمى والتطوير التقنى والإبداع الأدبى والفنى، وبإقامة مشروعات إنتاجية تتيح فرص العمل الوفير والجيد لأبنائها؛ سبيلا للقضاء على الفقر المخيم على الوطن. ومن حسن الطالع أنه ما زالت لمصر، على الرغم من الفشل والفساد، ميزة نسبية حاسمة فى إنتاج المعرفة من خلال الإبداع والابتكار، تهدر حاليا بسبب الحكم التسلطى والفساد وافتقاد الرشد الاقتصادى. فعلى الرغم من الفشل الذريع للدولة المصرية غير الرشيدة اقتصاديا وتنمويا، فما زالت مصر تتصدر المنطقة العربية فى مؤشرات الإبداع والابتكار المعتد بها دوليا فى البحث العلمى والتطوير التقنى مثل النشر فى المجلات العلمية المحكمة دوليا وبراءات الاختراع. وحيث تصدرت غاية العدالة الاجتماعية مطالب الثورة الشعبية العظيمة، نورد معالم طريق للعمل الجاد من أجل هذه الغاية النبيلة: وضع حد أقصى للدخل (مجمل لأجور والمرتبات والبدلات) لجميع العاملين بأجهزة الدولة شاملا القوات المسلحة والأمن بحيث لا يتعدى 15-20 مثلا من الحد الأدنى للأجر، كما هو الحال فى جميع الدول الرأسمالية المتقدمة. إنهاء عوار «الصناديق الخاصة» التى كانت، وما زالت، مرتعا للفساد، وإعمال مبادئ الرقابة والمساءلة، ضمانا للنزاهة على جميع الموارد العامة والإنفاق منها. إلغاء أى أثر باقٍ لبدلات ومكافآت «الولاء» سيئة الصيت التى يقدر البعض أنها كانت ترفع تكلفة موكب واحد لرأس الحكم المخلوع داخل القاهرة الكبرى إلى خمسة عشر مليون جنيه، تزيد إلى أكثر من الضعف لو انتقل جنابه إلى خارج القاهرة داخل الجمهورية، وتظهر أهمية هذا البند فى عودة مواكب وإجراءات تأمين الرئيس الحالى إلى سابق عهدها أيام الطاغية المخلوع. خفض عدد العاملين بأجهزة الأمن إلى النصف أو أقل، بإعادة هيكلة أجهزة الأمن لتصبح أقل عدداً ولكن أعلى كفاءة فى صيانة أمن المواطنين وحقوقهم، تحت الإشراف الكامل للقضاء المستقل تماما، مع إتاحة التدريب التحويلى الملائم لتوظيف من يرغب ويصلح منهم، بمجالات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعى. وإجراء خفض موازٍ لمخصصات أجهزة الأمن لصالح زيادة مخصصات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعى. ولا يجب التعلل بأن هذا الخفض فى المال والرجال سينتقص من الأمن فى البلد. فالإسراف فى الإنفاق والرجال والعتاد لا يحقق الآن أمنا تاما كما يعلم الجميع، ولا يمنع أحداث عنف أو إرهاب للمواطنين. بل إن أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية، قد تخلت أحيانا عن واجبها الأصيل فى تأمين التظاهرات السلمية وأوكلتها جهارا إلى قوات أهلية تنتمى لتيارات سياسية بعينها، ما ينطوى على أخطار محدقة، بل ويفتح الباب على جهنم الميليشيات الدينية. إن قلة العدد مع الكفاءة التى تنتج عن التنظيم الجيد والإدارة السليمة بالتأكيد أفضل من الوضع الراهن. وتكفى هنا المقارنة بحالة الصين التى يقل تعداد قوى الأمن المدنى فيها عن مصر حالياً بينما يتجاوز تعداد سكانها خمسة عشر مثلاً سكان مصر. إصلاح الهيكل الضريبى بإعطاء الأولوية للضرائب المباشرة على الدخل والإثراء (أى الأرباح الرأسمالية أساساً) والعودة إلى نظام معدلات الضرائب التصاعدية، حسب شرائح الدخل والثروة، وتكثيف الجهد لتحقيق الانضباط الضريبى خاصة بين كبار الممولين. وقف وهب الغاز والبترول المصرى للعدو الإسرائيلى بأسعار متدنية. استعادة مشروعات القطاع العام التى بيعت بخسا وإفسادا، للملكية العامة، مع تعويض أصحابها الحاليين عما دفعوا فى شرائها فقط، وليس قيمتها السوقية الحالية، وتبنى سبل توسيع قاعدة ملكية الشعب لهذه المشروعات، وتخصيص قسم من أرباحها لصندوق تنشيط الاقتصاد وإقامة العدل. مصادرة الثروات التى استلبها أصحابها، بطرق غير مشروعة أو غير أخلاقية؛ مثل عمولات توريد السلاح وإرساء المناقصات العامة والمضاربة فى الأراضى والبورصة وأرباح الاتجار فى المخدرات والتهرب الضريبى، خاصة بإساءة استغلال النفوذ والحظوة من السلطة والثروة، وتخصيصها لصندوق تنشيط الاقتصاد وإقامة العدل. قبل الاقتراض والاستجداء من الخارج، على رئاسة الإخوان وحكومتها، ومجلس الشورى، مطالبة كبار أثرياء مصر وعلى رأسهم قادة القوات المسلحة ورؤساء مشروعاتها الذين يتحكمون بقرابة نصف الاقتصاد المصرى، وكبار الموظفين فى البلد فى القطاعين العام والخاص، وجماعات الإخوان المسلمين والسلفيين المتمولين بسخاء، و«الفنانين» والإعلاميين ولاعبى الكرة ومدربيها، أصحاب المرتبات المليونية، بالتبرع أو تقديم قروض حسنة، أى بدون فوائد، لخزانة الدولة الخاضعة لرقابة مجلس الشعب. هذا ما يجب أن يكون معيار الوطنية الآن، ما دام الوطن فى ضائقة. ورحم الله أم كلثوم، التى سخَّرت كل طاقاتها وجل ثروتها للتبرع للوطن بعد هزيمة 1967. فليتعلموا جميعا منها، ولو قليلا! ولعل السلطة الراهنة تستغل قدراتها الهائلة على الترويع للضغط الجاد على ناهبى الشعب، لتعويض الشعب عن جرائمهم بدلا من حمايتهم. ولعلهم يفهمون أن تدليل رأس المال حتى الإفساد لم يجلب على البلد خيراته الموعودة من نمو ضخم أو فرص عمل جيدة كثيرة أو تحسين معيشة عامة المصريين، وإنما ركّز، كما نعلم الآن يقيناً، على نهب ثروات البلد والجرى وراء الربح الضخم والسريع والتسلق على السلطة بينما استشرت بين المصريين سوءات البطالة والفقر، خاصة بين شباب العامة. وما دامت الدولة فاشلة وسفيهة اقتصاديا، فإن المهمة الوطنية الأقدس للقوات المسلحة المصرية هى استغلال إمكاناتها الاقتصادية الهائلة وقدرتها على التخطيط وكفاءة التنفيذ فى الاستغناء عن المعونات الأجنبية، وخاصة العسكرية والعمل على دفع مشروع النهضة هذا، متضمناً إقامة قدرة وطنية فى التصنيع العسكرى، فماذا ينقصنا عن إيران. ولنتذكر دائماً أن أول طائرة اخترقت حاجز الصوت فى مصر فى الستينات كانت نتاج مشروع هندى مصرى مشترك، وكان المحرك مصنوعاً فى مصر، وهذا هو المعنى الحقيقى لعبارة «ما أدراك ما الستينات» التى أطلقها الرئيس الحاكم لغواً فى نشوة ارتقائه سدة الحكم.