فى ندوة غير مسبوقة تشاركت فيها الجماعات العلمية الأكثر أهمية (اتحاد المؤرخين العرب، الجمعية التاريخية، لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة)، جرت مناقشات غاية فى العمق حول «تاريخ الأندلس، متى؟ وكيف؟ والدور الذى لعبته الإمارات الأندلسية فى خلق نسق تعددى متآخٍ بينها وبين أبناء الديانات الأخرى». ولأن الأوراق لم تصبح متاحة بعد فقد أتيت إلى محاولة سابقة لكنها مستكملة أوراقها المطبوعة بحيث يمكن دراستها دراسة متأنية. والأوراق قُدمت فى ندوة عقدها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعنوان «الإسلام والغرب.. حوار حضارى» - 6-7 مايو 2011- فى أبوظبى. وفى تقديم الكتاب الذى كتبه مدير عام المركز د. جمال سند السويدى، وهو باحث مدقق وجاد، نقرأ «يمتد التفاعل بين العالم الإسلامى والغرب إلى قرون خلت. وعلى الرغم من أن نقاط الاختلاف بين الطرفين معروفة جيداً، فإن تبادل المعرفة والوعى الثقافى بينهما لا يمكن الاستخفاف به. كما أن تأثير هذه الأشياء فى كلتا الحضارتين ملموس». ثم: «ومن خلال العودة إلى الماضى يمكن أن نجد فى بعض الأحيان وسيلة لتحقيق مستقبل أكثر أمناً، فالأمثلة الماضية من التعاون والتعايش المشترك بين الغرب والعالم الإسلامى يمكن أن تقدم وسيلة للتفاهم والاحترام المتبادلين» (ص7). وبعد التقديم تأتى المقدمة ونقرأ فى كلماتها الأولى: «توصف العلاقات بين الإسلام والغرب فى كثير من الأحيان، بسلسلة من الصراعات التى تتخللها فترات من السلام المتوتر، ولكن مثل هذا الوصف يتجاهل بصورة خاطئة تلك اللحظات من التفاعل الحقيقى والتعايش المشترك»، وللأسف «يميل المؤرخون إلى الكتابة حول المعارك بشكل أكبر من أوقات السلم ولكن مجرد النظر إلى الماضى يمكن أن تكشف فترات رائعة كانت الإنسانية هى السمة السائدة فيها. وتوفر إعادة بحث الحضارة الأندلسية وسيلة لتعزيز جهود التقارب بين المجتمعات الإسلامية فى الشرق والمجتمعات المسيحية فى الغرب من خلال اعتماد أنماط تاريخية من التعايش المشترك والتفاعل الثقافى والتبادل التجارى، وبذلك يتم تعزيز الأمل بالعثور على نموذج من شأنه تحفيز الحوار بين الحضارتين»، ثم: «ليس هناك شك فى أن أجواء من التسامح والتعايش السلمى التى اتسمت بها التجربة السياسية والتنمية الاجتماعية فى إسبانيا، خلال فترة طويلة من الزمن نسبياً تلقى الضوء على سلوك الإنسان المتحضر الذى لم يفقد رمزيته وطاقته باعتبارهما حافزاً لإدراك أهمية الدروس المستفادة من الماضى فى عالم اليوم» (ص11). ويقتادنا هذا الرأى إلى بحث بالغ القيمة والأهمية عنوانه «النموذج الأندلسى وسبل توظيفه لتفعيل الحوار الإسلامى المسيحى الحديث» أما صاحب البحث فهو الأكاديمى الإسبانى إغناطيوس غوتيريث دى تيران. وهو أستاذ الدراسات العربية فى جامعة أتونوما المستقلة. وهو متخصص فى اللغة والأدب العربى والعلاقات بين أوروبا والعالم العربى.. عاش فى القاهرة ودمشق لفترة من الزمن. وترجم عدة كتب من الإسبانية إلى العربية والعكس (ص272). ويبدأ إغناطيوس دراسته البالغة الأهمية والمتعة محدداً هدفه فيقول: «تتطرق هذه الورقة إلى سبل تدعيم مساعى التقارب بين المجتمعات الإسلامية الشرقية والمسيحية الغربية من خلال اعتماد الأنماط التاريخية النموذجية، لعلنا نجد فيها ما يمكن الاقتداء به بهدف تنشيط مسار الحوار الحالى حالياً»، ثم هو ينتقل إلى فكرة طموحة مؤكداً: «نحن مؤمنون بأن المثال الأندلسى يتسع لتوظيفات عدة من ضمنها الإعداد للإطار النظرى والتطبيقى لقواعد هذا الحوار ومحتوياته وأغراضه الأساسية. فلا شك أن أجواء التسامح والتعايش السلمى التى تميزت بها التجربة السياسية والاجتماعية فى إسبانيا خلال فترة زمنية غير وجيزة تسلط الضوء على سلوكيات بشرية وحضارية لم تفقد براعتها وطاقتها الرمزية والفعلية بوصفها حافزاً متجدداً لتطعيم دروس الماضى فى حاضرنا» (ص19). لكن إغناطيوس يلاحظ أن بعض الفئات تتشكك أصلاً فى إيجابية التلاقى الدينى الحضارى، وتعمل على تجريد تلك الحقبة البالغة الأهمية لتشكيل الهوية الأوروبية من طاقاتها المشرقة، ومن ثم فإن تلك الجهات ترفض بشدة ما تسميه «الأسطورة الأندلسية» وترى أن هناك حرصاً على اصطناعها لأغراض مشبوهة تستهدف تبرير حوار دينى حضارى لا طائل من ورائه. لكن إغناطيوس الشديد الطموح يؤكد أنه رغم هذه المواقف المتصفة بالتطرف والنوايا الخبيثة فإنه لا يزال يتشبث بخيط الأندلس المتين اعتقاداً منه بأن إنجازاتها على صعيد العلاقات ما بين المجموعات الدينية والعرقية تستحق التقدير والتثمين (ص20). لكن إغناطيوس تقدم فى البداية بانتقادات لاذعة لعدد من الإشكاليات الرئيسية فى مسألة الحوار.. وهى أولاً تحديد مسميات الأطراف. فالمسميات التقليدية المطروحة تقول حوار «إسلامى» «غربى» وكأن الهدف كما يقول هو أن تحدد من الوهلة الأولى أن طرفاً «علمانياً» فى مواجهة طرف «دينى» وهو يقدم ملاحظة سبق أن قدمناها من قبل وهى أن الغرب هو تحديد جغرافى بينما الإسلام هو تحديد دينى. والملاحظ أن تجريد أحد الطرفين من الخصوصية الدينية فى حين التشديد على دينية الطرف الآخر هو موقف مسبق يستهدف تحديد هوية الأطراف المنوط بها تمثيل «الحضارة الإسلامية». وملاحظة ثانية، هى غموض المطلوب من تلاقى الطرفين فهل هو حوار حضارات أم لقاء حضارات أو تحالف حضارات. وبالبحث عن مدلول كلمة حضارة لم يتم إيجاد توافق حولها، ولهذا اقترح البعض اللجوء إلى مصطلح «ثقافات». ثم كانت أحداث 11 سبتمبر التى فجرت مخاوف عديدة وفتحت أبواب صدام بين الغرب (أمريكا وأوروبا) وبين تنظيم القاعدة التى أطلق عليه «الإرهاب الدولى» فتصبح الحوارات من المنظور الثقافى والحضارى محكوماً عليها باللافاعلية.. فماذا يقترح إغناطيوس؟ ونأتى إلى فكرة استعادة الأندلس.. فإلى لقاء.