طوال عملى فى مهنة الصحافة، لم أضبط نفسى مرة واحدة متهماً بصداقة نجم. كنت أرى غالبية النجوم طغاة، متورمين، سطحيين إلى حد التفاهة أحياناً. كنت مؤمناً بأن عامل الإضاءة ربما أكثر أهمية للعمل الفنى من النجم نفسه، وكان أصدقائى فى هذا الوسط الصاخب، الجاذب، وما زالوا دائرة ضيقة من الكتاب والمخرجين، حتى بعد تجربة (الفن السابع). كانت (الفن السابع) حلم حياتى: أن أكون رئيساً لتحرير مجلة سينمائية متخصصة، تعلم جمهور السينما فى مصر أن الفيلم ليس نجماً وموضوعاً مسلياً فقط، بل محصلة عمل جيش من المبدعين والتقنيين.. والتجار والموزعين أيضاً. وكانت المشكلة أن مجلة غير جماهيرية فى بلد فقير ومتخلف تحتاج إلى «ممول انتحارى». وبعد رحلة بحث استغرقت أكثر من سنة، وقع المشروع فى حجر «محمود حميدة». التقط الفكرة واعتبر نفسه شريكاً فى الحلم، وقال قولته التى أصبحت فيما بعد رباطاً مقدساً: «ربنا رزقنا ببعض». وصدرت المجلة فى ديسمبر 1997، وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف عن حميدة أكثر مما يعرف محرر مبتدئ فى مجلة فنية مغمورة. بدأ حميدة حياته الفنية ممثلاً تليفزيونياً من خلال دور لا ينسى فى مسلسل (الوسية)، لكنه سرعان ما انقلب على هذه البداية، ولم يعد يفوت فرصة للهجوم على دراما التليفزيون وممثليها إلا واقتنصها. وتبين لى أنه كان على حق حين قال إن التليفزيون «يحرق» نجومية ممثل السينما ويؤثر عليه سلباً من الناحية المهنية، كونه يعتمد أسلوباً فى الكتابة والإخراج والتمثيل يغلب عليه الافتعال والترهل وبطء الإيقاع. بعد أن منحه المخرج محمد خان بطولة فيلمه (فارس المدينة)، غرق حميدة فى سيل من الأفلام.. كرست لدى محبيه إحساساً بأنه مجرد «ممثل وسيم» رغم أنه كان يبشر بظهور «دونجوان» من نوع رشدى أباظة!. لكنه انتبه فجأة إلى أن سجله السينمائى لا يتضمن سوى تجربة يتيمة يعتز بها هى (فارس المدينة)، فتوقف قليلاً ليراجع نفسه، وخلص إلى ضرورة أن يعيد النظر فى فهمه للسينما، وأن يلم بأحدث تطوراتها التقنية واتجاهاتها الفنية ونظمها التشريعية. وظل لسنوات طويلة حريصاً على السفر إلى أوروبا وأمريكا صيف كل عام لدراسة السينما. وكان يعود كل مرة أكثر اعتزازاً بأنه «ممثل سينمائى»، وأكثر تدقيقاً وقسوة على نفسه فى اختيار أدواره. وهكذا تجاهل حزمة من الأفلام التى اعتبرها أقل أهمية، وأصبح يباهى بأفلام مثل (عفاريت الأسفلت) و(جنة الشياطين). والفيلم الأخير بالذات كان مغامرة فنية، إذ تكفل بإنتاجه، وحصل على قرض بضمانات بينها سيارته الخاصة، ولعب فيه دور «جثة» لصعلوك مسيحى يتجاذبها ثلاثة شبان أشقياء. وقد اجتمعت ل(جنة الشياطين) الذى تكلف آنئذٍ (عام 2000) أكثر من مليونَى جنيه، كل أسباب الفشل من الناحية التجارية، لكنه تجربة رائدة، تعكس «مثالية» حميدة وقسوة انحيازه للسينما. فى الوقت نفسه كانت «الفن السابع» قد أصبحت أمراً واقعاً، وتطور محتواها ورسالتها وخطابها المتخصص، وبدأت تسد فراغاً هائلاً فى المشهد الثقافى المصرى والعربى. لكنها أيضاً بدأت تصبح عبئاً على أصحابها. لم يكن مسموحاً لمن يكتب فيها أن يخطئ فى معلومة أو اسم ممثل. لا مجاملة. لا شتائم. لا تسطيح. لا إعلانات على حساب رأى أو موقف. لا تنازل عن طباعة بيروت الفخمة. لا رئيس تحرير ولا رئيس مجلس إدارة ولا مدير عام ولا محررون.. لا شىء سوى السينما!. بدأنا نترنح. راحت السكرة وجاءت الفكرة. تعبنا وتوترنا وكثرت اشتباكاتنا وخفت زهونا بأنفسنا وبالتجربة ذاتها. أما حميدة، هذا الذى بدا لى مثل أبطال الملاحم الإغريقية، فقد تراكمت عليه الديون واكفهر، وابتعد أميالاً عن حماسه القديم، لكنه رغم ذلك ظل وفياً للتجربة. يقطع من لحمه الحى، رافضاً حتى طبعها فى مصر أو على ورق أقل كلفة. كنت أريدها جادة، متخصصة، ولا يهمنى أين وكيف تطبع. وكان يريدها غنية شكلاً ومحتوى. كنا نختلف إشفاقاً عليه، لكننى فى النهاية أقول لنفسى: «اطبخى يا جارية». وفى أغسطس 2001 -أى بعد 45 عدداً- احتجبت المجلة عن الصدور، لكننى طرحت على حميدة قبل احتجابها بأشهر قليلة فكرة اختيار رئيس تحرير جديد للمجلة، واقترحت عليه إسناد المهمة تحديداً إلى الناقد الكبير سمير فريد، لكنه صادر الفكرة وقال بحسم: «مستحيل. المجلة تشبهك، وقد أحببتها هكذا، وغامرت بفلوسى لتكون هكذا». وكان لا بد لى من «خروج آمن». افتعلت خناقة صغيرة، وقطعت على نفسى كل خطوط الرجعة، وأخذت مستحقاتى المادية وجلست فى البيت عاماً بالكامل أتأمل التجربة وأضرب كفاً بكف: «أى نوع من النجوم هذا؟». من يصدق أن نجماً يمكن أن يستثمر فلوسه فى مجلة تطبع خمسة آلاف نسخة، توزع منها ثلاثة آلاف على الأكثر، وتخسر نحو سبعة جنيهات فى النسخة الواحدة!. أى مغامر مجنون؟!. منذ صدرت المجلة وحتى توقفت والناس يتساءلون: من أين يأتى حميدة بالفلوس؟ من تكون عشيقته التى تنفق على مشروع ثقافى كهذا؟.. بل ما الذى حشره أصلاً فى هذا النوع من المشاريع؟. الآن، وبعد نحو 15 عاماً على احتجاب (الفن السابع)، أقول إن محمود حميدة لم يكن معنياً بأن يكون نجماً بقدر ما كان أسيراً ل«سحر السينما». كان يقطع من لحمه لتستمر المجلة، وكان يحلم بأن تصل إلى الجالسين على رؤوس الغيطان وأمام أفران المصانع. كان يعتبرها مشروعاً ثقافياً صرفاً، وكثيراً ما فاتحنى فيما هو أغرب وأصعب: إنشاء أكاديمية خاصة لتدريس شعر فؤاد حداد.. وكان الشعر والشاعر - وما زالا- خبزه اليومى. وإذا جاز لى أن أقول إن حميدة ظاهرة «دون كيشوتية»، فإن إنجازين مثل (الفن السابع) و(جنة الشياطين) ليسا ضرباً فى طواحين هواء. وإذا كان قد بقى لى من (الفن السابع) ما أفخر به، فهو بكل تأكيد «صداقتنا» وأربعة مجلدات.. أعود إليها كلما كنت فى حاجة إلى غرور. أتأملها وأزهو بنفسى، ثم أبحث عنه: «وحشتنى يا أستاذ».