برد قارس، أمطار، عواصف ترابية ورملية، تحذيرات تعج بها وكلات الأنباء وتطلقها هيئة الأرصاد، مواطنون يمتنعون عن النزول، وآخرون تضطرهم أعمالهم للمجازفة، فيغطون أنفسهم من الرأس إلى القدمين من وقت خروجهم وإلى العودة، وفى الجانب الآخر تجد من لا مأوى له، أهل الرصيف الذين لا يحميهم من البرد شىء سوى ملابس رثة ربما تستر أجسادهم، لكنها لا تشعرهم بالدفء. على رصيف كورنيش بحر شبين الكوم، ينام «محمد أبو برسيم»، وهو من أرض النمس التابعة لقرية شنوان، كان يعمل فى البلدية بأجر زهيد، وتزوج من سيدة تشبهه فى الظروف الاقتصادية وأنجبا 5 فتيات، واصل ساعات العمل الليل مع النهار ليتمكن من سد احتياجات أسرته، من مأكل وملبس، ولم يتمكن من إلحاقهن بالتعليم لضيق ذات اليد، وبصعوبة شديدة استطاع تجهيز الفتيات وإعدادهن للزواج حتى تزوجن جميعهن بأقل الإمكانيات. أوضح «أبو برسيم» أنه قبل زواج ابنته الأخيرة توفيت زوجته، وأصبح الحمل ثقيلًا بالنسبة له، حيث كانت تساعده من خلال عملها فى المنازل، وتساعد السيدات القريبات فى أعمال التنظيف والطبخ وغيرها من شئون المنزل، الأمر الذى ضاعف من همومه ومتاعبه المادية، وبصعوبة شديدة تمكن من تزويج ابنته الأخيرة، وازدادت الضغوط أكثر بعدها، فى ظل معاناته من أمراض مزمنة جعلته غير قادر على العمل، ولم يجد من بناته أى اهتمام أو رعاية ولم يحاول أى من أقاربه أن يمد له يد العون نهائيًا، بل ابتعدوا جميعهن بسبب سوء حالته، حتى اتخذ من الرصيف مأوى وبات يعتمد بشكل كلى على مساعدات المارة، ومنزله يحتوى على غرفة واحدة يخاف أن يذهب إليها حتى لا يدركه الموت وهو بمفرده، ولا يتمكن أحد من العثور على جثته بسهولة، فينام على الرصيف حتى يشعر به المارة. وأشار إلى أن متوسط ما يحصل عليه طوال وجوده على الرصيف نحو 10 جنيهات يوميًا، ولا توجد لديه ملابس ثقيلة تقيه شر هذا البرد القارس، ولا توجد لديه سوى بطانية قديمة ممزقة يضطر أن يتخذها غطاءً له فى هذه الأيام. أما على رصيف كورنيش النيل، وتحديدًا فوق محطة مترو الأوبرا، سوف تجد «أم محمد عباس»، التى عملت فى المنازل من أجل أبنائها وتحملت الإهانة والإصابة بالأمراض لتوفير حياة كريمة لهم، فمنهم من أصبح مدرسًا، وآخر محاسبًا، وبنتين ربات بيوت تركوها ملقاة فى الشارع لا تجد من يأويها أو يحميها من برد الشتاء، وقد توفى زوجها وترك لها أربعة أبناء فى المراحل التعليمية المختلفة، ولم يسبق لها العمل فى أى مهنة، فعملت فى المنازل حتى تتمكن من رعاية أبنائها وتوفير حياة كريمة لهم، ولكن بعد أن تزوجوا تركوها فى المنزل دون السؤال عليها أو محاولة تقديم أى مساعدة لها أو رعاية صحية، بل نقلوها أيضًا للإقامة فى غرفة صغيرة ليأخذوا المنزل الذى كانت تعيش فيه، فأصبحت وحيدة تقاسى مرارة العيش، تجلس على الأرصفة وتتسول المأكل لتكمل يومها فقط، كما أنها تعانى أشد معاناة فى هذا البرد من انخفاض درجات الحرارة وعدم وجود بطاطين أو ملابس ثقيلة لها فى مثل هذه الظروف الصعبة. وأمام مديرية الكهرباء بالمنوفية، تجلس سيدة عجوز يتعدى عمرها ال 70 عامًا، معها كيس أبيض به غذاء يومها، وعصا تتكئ عليها لكبر سنها، ولا يوجد من يعولها، هى سكينة فرحات، التى فقدت ابنتها فى حريق هائل بالمنزل، ولم يتبق سواها وحفيدها وحفيدتها. تقول «سكينة» إن ابنتها كانت مطلقة وتقيم معها وشب حريق بالمنزل وعلى إثره توفيت، وتركت بنتًا وولدًا، ولم تستطع تحمل مسئولية الأحفاد بمفردها، فجلست على الرصيف تستجدى الإحسان من المارة، ولم تستطع إلحاق أحفادها بالتعليم لكنها حاولت أن تضمن لهم طعامًا نظيفًا، إلا أنه لا يوجد من يعتنى بها أو بالأحفاد، فصنعت غرفة من الطوب اللبن ليحتموا بها من برد الشتاء، إلا أنها غير قادرة هى والأبناء على تحمل انخفاض درجات الحرارة الشديد هذه الفترة ولا يوجد لديهم ما يكفيهم لسد حاجاتهم من التدفئة. وعلى رصيف محطة القطار، تنام سيدة فى العقد الثانى من عمرها لا تأمل سوى فى توفير مكان لها ولأولادها يحميها من البرد والعواصف، حيث تقول «فتحية عبد الشافى»: إنها دخلت فى خلافات طويلة مع زوجها وتعرضت لاعتداءات بالضرب بشكل يومى، تحملتها جميعها حفاظًا على أبنائها، إلا أنها فوجئت بزوجها يتزوج بأخرى، ورغم سكوتها حفاظًا على الأسرة فإنها وجدته يأخذ كل ما لديها ليعطيه لامرأته الجديدة، وعندما امتنعت عن ذلك طلقها وترك لها الأولاد، ولا يوجد لديها سكن أو مأوى، وفى ظل ارتفاع أسعار السكن جلست على الرصيف، فلا يوجد لديها حلول أخرى للحياة.