عادت حكاية القس الأمريكى أندرو برانسون تظهر فى الإعلام من جديد، ولكنها ظهرت من باب الأكراد هذه المرة، رغم أن حكايته فى الأصل لم تكن تخلو من علاقة مباشرة بالملف الكردى بوجه عام.. ففى الثانى عشر من أكتوبر الماضى كانت الحكومة فى تركيا قد أفرجت عن برانسون، بعد احتجازه لديها على مدى عامين تقريبًا، وبعد أزمة كبيرة بينها وبين الحكومة الأمريكية دامت أسابيع، ثم تصاعدت على المستوى الاقتصادى التركى بالذات إلى حد خطير ! وكانت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان قد ألقت القبض على القس فى التاسع من ديسمبر 2016، ووجهت إليه العديد من التُهم، ولكن أهمها كان التجسس، ومساعدة الإرهابيين على أرض تركيا، وإقامة علاقة مع نشطاء أكراد، وكذلك مع أنصار لفتح الله جولن، الداعية التركى الشهير الذى فر هاربًا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث يقيم هناك فى ولاية بنسلفانيا منذ عام 1999 ! وعندما خضع برانسون للمحاكمة صدر عليه حكم بالسجن ثلاث سنوات.. ولكن.. بدا للرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى صيف العام الماضى أن يطلب الإفراج عنه، وبسرعة، غير أن الأتراك تصوروا أن فى إمكانهم استخدامه ورقة سياسية فى التعامل مع ترامب، وكان التصور لديهم يقوم على أساس أنه من الممكن الإفراج عن القس، فى نظير قيام واشنطون بتسليم جولن الذى يتهمه الرئيس التركى بأنه كان يقف وراء محاولة الانقلاب التى جرت عليه فى يوليو 2016 ! ولكن الأمريكان فى المقابل أفهموا الأتراك بكل لغة ممكنة، أن هذه المقايضة التى يتصورونها ليست واردة على الإطلاق، وأن جولن سوف يبقى لديهم، وأن مسألة القس المحبوس منتهية، وأن الإفراج عنه واجب، وأن التأخر فى إطلاق سراحه له عواقب كبيرة ! ولم يكن أردوغان يتخيل أن ترامب جاد فى تحذيره إلى هذا الحد، لأنه ما كاد يتلكأ فى إطلاق سراح برانسون حتى بدأ الأمريكان فى الضغط على الليرة التركية بطريقة غير مسبوقة حقًا، وهو ضغط بدأ على الليرة ثم تواصل حتى فقدت العُملة الوطنية فى أنقرة ما يقرب من أربعين فى المائة من قيمتها أمام الدولار، خلال فترة لا تزيد على أسابيع معدودة على أصابع اليد الواحدة ! لم يشفع لأردوغان عند إدارة ترامب أن تركيا عضو فى حلف شمال الأطلنطى، الذى تترأسه أمريكا نفسها، وتعامل الرئيس الأمريكى مع الأتراك وكأنهم خصوم أو حتى أعداء، وأن كل ما يستطيعون أن يفعلوه هو أن يغادر القس الأراضى التركية إلى بلاده فى أقرب وقت ممكن ! ولم تجد الحكومة فى أنقرة مفرًا من إعادة إخضاع برانسون لمحاكمة جديدة، خرج بعدها إلى بلده بشكل مباشر !.. والغريب فى الأمر أن الليرة بعدها استردت عافيتها، أو بعضًا منها، وتنفس الرئيس التركى الصعداء للمرة الأولى منذ بداية الأزمة، وبعد أن ظل يناشد مواطنيه أن يتخلصوا من الدولارات الموجودة فى حوزتهم، وأن يشتروا بها الليرة التركية ! حدث ذلك كله فيما قبل الثانى عشر من أكتوبر الماضى، الذى جرى فيه الإفراج عن برانسون بعد إعادة محاكمة تغيرت فيها أقوال الشهود فى القضية، وخرج هو على هذا الأساس، وقال ترامب وقتها إنه سيستقبله فى مكتبه فى البيت الأبيض! وعندما غرد ترامب يوم الإثنين 14 يناير، على عادته فى التغريد على تويتر، عاد شبح القس يخيم على علاقة البلدين من جديد !.. ففى تغريدته قال بشكل صريح أنه سيدمر اقتصاد تركيا، إذا هى تهورت وهاجمت الأكراد فى الشمال السورى! وقد بدا فى التغريدة وكأنه يقول صراحةً، أنه هو الذى كان قد ضرب الليرة من قبل، كما لم يضربها أحد من قبل.. فلم يحدث أن ظهر أردوغان ضعيفًا، متداعيًا، شاكيًا، مستغيثًا، كما كان قد ظهر فى أيام القس والليرة، إذا جاز أن تسمى تلك الأيام بهذا الاسم ! وكما كان ترامب قد أمسك أردوغان من يده التى توجعه أيام برانسون، فإنه قرر أن يمسكه هذه المرة من يده الأخرى التى توجعه أيضًا، لأنه لا شىء أحب إلى الرئيس التركى، من أن يضرب الأكراد فى كل مكان، وليس فى الشمال السورى وحده، بقوة وبعنف وقسوة، ولكن الرئيس الأمريكى يخيره بين بقاء اقتصاد بلاده متماسكًا كما هو، وبين الإقبال على ضرب الأكراد، ويضعه فى المربع الأصعب فى حياته، وليس أمام الرئيس التركى غير اختيار واحد من هذين الخيارين !