الاعتياد شىء مُدمر، أحاولُ إقناع نفسى أننى لست مُجبرة على مكانى هذا أحاول إقناع نفسى بقضاء الأيام فيه.. لكنْ هنا كلما مرت دقائق ديسمبر؛ يزداد جِسمى تجمدًا وانكماشًا وانطواءً.. لم أعد أحتمل الجحيم البارد الذى نعيش فيه.. تُحيط بهذا السّجن المحبوسين داخله أسوار عالية تمرُ فوقها الرياح الباردة... تسير البرودة تجاهنا، وكأنها تتسلل الأسوار العالية التى تحيط السجن وتصل جانبى الباب الحديدى ببعضهما.. الباب لا يُفتح.. إلا فى الرابعة عصرًا.. رجال الأمن لا يفتحونه.. بل يفتحون بابًا صغيرًا منحوتًا فيه.. تدخل البرودة وتسير فى الممرات أمام مكاتب التعذيب، حتى تصل إلى الزنزانة الصفراء الباهتة التى نجلس بها صامتين ننظر لأسفل.. كلُ الأشياءِ فى غرفتنا لا تتحرك.. لا يتحرك هنا.. إلا الهواء.. حتى عقارب ساعة الحائط لا تتحرك؛ فهى متواطئة مع السجَّانين.. يتحرك الهواء فقط حول كل مسجونٍ هنا يعطيه جرعة عقابه بردًا.. إننا جميعًا مرسومون فى لوحةٍ باهتةِ الألوان.. تُزينها نباتات الصبَّار الخضراء المتناثرة النابتة فوق حديقة السّجن المتآكلة، والمتراصة بالبهو المُزيَّن للضيوف.. البرودة تتدرب فى الحديقة الرملية على التعذيب، ثم تمضى تُنفذ تدريباتها.. علينا.. تقتحم مبنى السّجن الضخم ذا اللافتة الضخمة التى تحمل اسمه.. «الهيئة العامة للعقاب».. يعلو صوتُ الهواء يتفاخر بعدم وجود أى أصوات غيره.. أصبحنا لا نسمعه من كثرة ما سمعناه.. تذبلُ الإضاءةُ.. تُرهق عينى المتراخية التى ترقب الأجساد فى زنزانتنا المكتظة بالأوراق، والمكاتب، والنسوة اللاتى شردتهن عقولهن فرأت عيون العقاب أوجههن الملطخة باللون الأحمر.. وجاءت بهن هنا.. بجوارى.. يزحمن الزنزانة.. سارقات ومرتشيات.. وبريئات.. ولا يتحدثن إلا عن يومِ القبض.. ينظرن فى الأوراق التى تملأ مكاتبهن، ويكتبن كلماتهن العقابية اليومية عليها؛ فتحولت أحداقهن إلى اللون الأحمر مثل وجناتهن المصبوغة به.. يزيدوننى كآبة.. وددت معرفة الذى زجَّ بهن هنا، وجعلهن يودعن حرية الحياة، ولكنى لا أريد زيادتى كبتًا.. يُزيدنى البردُ إتقانًا لفن التكوّم فلا يتحرك سوى عينى عليهن، أجلس على الكرسى المثبت، وأكتبُ مثلهن على الأوراق كلمات عقابى المتكررة.. «روجع، ويعتمد» اعتدت على ذلك، واعتاد ذلك علىّ.. تقف ساعة الحائط كحارس يحفظ أوامر رؤسائه.. تحرسنا من الخروج إلى الحياة.. بانتهاء مدة عقوبتى اليومية هنا أذهبُ ملاذِ دفئى الوحيد.. سريرى بالبيت.. ألتحف عليه ببطاطين الحياة المدفئة الناعمة والمريحة التى أحبها.. أنظر إلى عقرب الثوانى الذى يلف ببطء مثل عقرب الساعات، وكأنه نائم أو متكاسل.. وبوصوله متأخرًا كعادته إلى زاوية الرابعة المنفرجة.. أحمل حقيبتى وهاتفى ومَفاتيحى.. وتخرج خُطواتى مُسرعة إلى النور والحرية.. أسير تحت الشمس التى قررت رحيلها اليومى بعدما وزعت كل دفئها.. أسير وأنا لا أعلم ما الجُرم الذى سأرتكبه الليلة؛ كى أسلِّم نفسى غدًا لهذا السجن.