مصر ليست بلدا فقيرا، ولا دولة فاشلة، بهرت العالم بقدرتها على الصمود خلال ثلاث سنوات عجاف.. سنوات الثورة التى انشغلنا فيها بحريتنا وحقوقنا وحكامنا، انشغلنا فيها عن مصانعنا ومزارعنا، لكن السنوات الصعبة كانت ثمنا ضروريا حتى نستعيد إيماننا بقوتنا وقدرتنا. كانت الموجة الثانية من الثورة ضرورية حتى يحصل العامل على الحد الادنى للأجور، وحتى تتجرأ الحكومة على إقرار الحد الاقصى على كبار موظفيها، وبداية التحسن فى مخصصات التعليم والصحة والبحث العلمى فى الموازنة العامة للدولة.
لكن ما حصلنا عليه حتى الآن لا يتجاوز كونه الإشارات الاولى لبرامج حقيقية تهدف الى النهضة وتحقيق لعدالة، فقد جربنا فى نهايات زمن مبارك معدل نمو قياسى ولكن بدون عدالة، وكانت النهاية الطبيعية هى الثورة.
مع بداية عام 2014 أصبح لدينا ثقة أكبر فى انفسنا، فلم تهزمنا كثرة المؤامرات، ولا الانفلات، ولا هروب المليارات.. والغريب أن روح التفاؤل والبهجة لا يملكها الآن سوى الخبراء، هؤلاء الذين يملكون قدرة اكبر على قراءة المستقبل، من خلال تقارير علمية وحسابات دقيقة، منهم خبراء البورصة التى قفزت مؤشراتها مع نهاية 2013 إلى أعلى معدلاتها منذ ثورة 25 يناير 2011.
موجة التفاؤل فى البورصة رفعت قيمة الاسهم المتداولة بما يوازى 51 مليار جنيه، لتستعيد قيمة الأسهم قدرتها على تمويل مشاريع الشركات من خلال تداولها فى البورصة، وسجل المؤشر الرئيسى للبورصة ارتفاعًا وصل إلى 24.1 % على الرغم من أن الأيام الأخيرة فى كل عام تشهد عمليات بيع مكثفة لتسوية المراكز المالية للشركات وصناديق الاستثمار، لكن نظرة التفاؤل وتوقعات المستثمرين بمزيد من النمو والأخبار الجيدة فى السوق دفعت المؤشر للاحتفاظ بقيمته المرتفعة، التى تجاوزت قيمة مؤشر البورصة قبل ثورة يناير 2011، وصعد أيضا مؤشر الأسهم الصغيرة والمتوسطة بنسبة 13.6%، وصعد مؤشر الاسهم الصغيرة بنسبة 15.3%.
مؤشرات البورصة تتجه الى مزيد من الصعود بعد أن تجاوز المؤشر الرئيسى حاجز 6800 نقطة، وهو ليس هدفا فى حد ذاته، ولكنه مؤشر على تفاؤل الخبراء والمستثمرين، ونظرتهم للعام القادم.
ولا يعترف خبراء البورصة ولا خبراء المؤسسات الدولية بوعود الحكومات، خاصة فى مناطق تسيطر عليها روح الثورة، مثل مصر، فقط يعتمدون على لغة الأرقام وما يتم تحقيقه على أرض الواقع.
وهذا ما دفع وكالة التصنيف الائتمانى «ستاندرد آند بورز» العالمية، إلى منح الاقتصاد المصرى شهادة «تعافى» من الازمة الحادة التى لحقت به خلال سنوات الثورة، ورفعت التصنيف الائتمانى للديون المصرية الطويلة والقصيرة الأجل بالعملات الأجنبية والمحلية إلى «سالب بي/ بي»، مقابل «موجب سى سى سى/ سي» مع تقديم نظرة مستقرة للبلاد.. وهو ما يعنى انخفاض تكلفة القروض وخدمة الدين، وقالت الوكالة فى رسالة للعالم «إن رفع التصنيف يعكس وجهة نظرنا بأن السلطات المصرية حصلت على تمويل كاف بالعملة الأجنبية لتلبية احتياجات الميزانية والتمويل الخارجى لمصر على المدى القصير. ونتوقع استمرار الدعم من جانب مقرضين عبر اتفاقيات ثنائية على المدى المتوسط فى وقت تحاول فيه السلطات المصرية التصدى للتحديات السياسية والاقتصادية بالبلاد».
لم تتغير موازين ومؤشرات الاقتصاد المصرى من تلقاء نفسها، فقد كانت الموجة الثانية من الثورة مدعومة من الاصدقاء التقليديين لمصر، دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات والكويت، وبفضل مواقفهم الصلبة مع مصر عاد معدل احتياطى النقد الاجنبى إلى مستوى الامان، ليرتفع إلى 18.9 مليار دولار، قبل أن ينخفض مرة اخرى إلى 17.7 مليار دولار بفضل سداد قيمة الودائع القطرية التى رغبت فى عقاب مصر على ثورتها ضد الإخوان وضد الامريكان.
عقب ثورة يونيه، تعهدت الكويت بمنح وقروض لمصر بقيمة 4 مليارات دولار، والسعودية بمبلغ 5 مليارات دولار، والإمارات 3 مليارات دولار، وقروض بدون فائدة ونفط ومنتجات نفطية تصل نسبتها إلى 4.4 % من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد لعام 2013 تقلل من احتمال تعرض مصر إلى أزمة فى ميزان المدفوعات.
ورغم أن الاحتياطى معرض للتناقص مع بداية عام 2014 الا أن فرص دخول استثمارات اجنبية إلى مصر وعودة السياحة واستمرار ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج تقلل من إمكانية حدوث انخفاض حاد فى احتياطى النقد الاجنبى.
تفاؤل وزير السياحة هشام زعزوع بعودة السياحة إلى مستوى 14 مليون سائح تدعم من قوة واستقرار الاحتياطى من النقد الأجنبى، وبالتالى مزيد من التحسن فى تصنيف مصر الائتمانى، وهو ما يقلل من فاتورة فوائد الديون.
وما يزيد من فرص الاقتصاد المصرى فى النمو وتماسك الاحتياطى الاجنبى وتعديل التصنيف الائتمانى هو محاولة الاستفادة من الموارد الطبيعية لسد العجز فى مصادر الطاقة والتى تستنفز مبالغ طائلة من النقد الأجنبى.
ورغم أن مصر ليست دولة بترولية، لكنها تبحث عن سد احتياجاتها على الاقل من مصادر الطاقة، مثل البترول والغاز الطبيعى، وهناك توقعات متفائلة للغاية بمستقبل عمليات التنقيب عن البترول والغاز، وكانت آخر الاتفاقيات التى وقعها وزير البترول المهندس شريف إسماعيل الاسبوع الماضى مع شركة «دانا بتروليم» الإنجليزية العاملة بمصر، اتفاقيتين جديدتين للبحث عن البترول والغاز فى منطقتى غرب الداخلة «1» و«2» بالصحراء الغربية.. الاهم من الاتفاقية هو تفاؤل الوزير الذى أكد أن اتفاقيات شركة جنوب الوادى القابضة للبترول الجديدة امتدت إلى مناطق تقع فى أقصى جنوب مصر وغربها وأيضاً فى المياه الاقتصادية فى البحر الأحمر، وأنه يتم حالياً تكثيف أنشطة المسح السيزمى والمسح الجوى والمغناطيسى من أجل توفير المعلومات الجيولوجية عن مناطق الجنوب التى لم تنل حظها المكثف من عمليات البحث خلال المائة عام الماضية بما أدى الى محدودية المعلومات المتاحة أمام الشركات العالمية للبحث عن البترول من أجل جذب المزيد من هذه الشركات للعمل بهذه المناطق البكر.
والاتفاقية تأتى فى إطار استكمال توقيع 21 اتفاقية بترولية جديدة مع الشركات العالمية للبحث عن البترول والغاز لأول مرة منذ عام 2010.
وتدرك الحكومة أن المعونات أو المنح والقروض لن تمكنها من الصمود وسد احتياجات 90 مليون مصرى، وهو ما دفعها للإعلان عن التحول من برامج المعونة والاقراض الى الاستثمار، وهو ما ظهر خلال مؤتمر الاستثمار الخليجى، والذى اعلن فيه وزير الاستثمار أسامة صالح عن تعديلات فى القوانين الاقتصادية، وتسوية 300 نزاع للمستثمرين، وقال إن المنتدى الاستثمارى المصرى الخليجى بداية جديدة لانطلاقة الاستثمارات الخليجية التى تصل إلى 50 مليار دولار وتتخطى الاستثمارات الغربية والتى تصل إلى 45 مليار دولار، وتم عرض 66 مشروعا خلال المؤتمر بتكلفة 50 مليار دولار.
يحسب لحكومة المرحلة الانتقالية انها لم تتورط فى بيع الوهم للمصريين، لم تعدهم بنقلات كبيرة فى رواتبهم ومستوى دخولهم وفرص للسكن والعلاج، لكنها بالفعل بدأت فى تطبيق برامج للتنمية وتمهيد الطريق أمام الحكومة القادمة التى تعقب الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية والبرلمانية.. هذا التوجه من الحكومة وقاها شر المطالب الفئوية التى من الممكن أن تستنزف أى فرصة حقيقية لتحقيق إنجاز قريب.
لا يملك المصريون الآن فرصة سوى التفاؤل، والسعى لحياة افضل، أقل عنفا، لكن عليهم إلا يتورطوا فى أوهام الايام الاولى للثورة، فالرئيس القادم مهما كان اسمه لن يحول حياتنا الى نعيم بعصا سحرية، ففاتورة الرخاء مازالت قيد الدفع، وهناك متربصون لا يرغبون فى عودة الدماء الى عروق الحياة الاقتصادية.