يقولون إن لكل من اسمه نصيباً، ومع ذلك لا تمت جميلة إلى الجمال بصلة، كل ما هنالك أنه الاسم الذى تملكه، وربما كان هو الشىء الوحيد الحقيقى الذى تملكه، مع ورقة صفراء بالية وممزقة تشهد على قدومها للعالم وملكيتها للاسم، وأنها مازالت رغم كل شىء.. على قيد الحياة. بالنسبة لها، هو مجرد اسم.. اسم عادى، لا يميزها عن غيرها، بينما قد يكون وسيلة للتندر على الفارق الكبير بين الاسم والشكل، لذا كان اسم «جميلة» من ضمن ما يؤرقها.
ربما كانت جميلة الروح، قبل أن تذبل مع أيام وأحلام اتفقوا على السقوط كأوراق الشجر فى فصل الخريف، والحقيقة، هى لم تعرف فصلا غيره، لم تعرف ربيعاً لعمر أو طعماً لشباب، جسد يضمر، صدر ناشف، لا يستطيع أن يروى عطش رضيع، ساقان رفيعتان، تذكرانها بتلك العصى التى ورثتها عن والدها وكانت هى، كل تركته.
أرادت جميلة أن تتحرر، تتحرر من كل شيء، فقر، وجوع، وقبح ينعكس من مرآة الدنيا، ومن مرآتها الصغيرة التى تهذب من خلالها حاجبيها الثخينين، فجميلة كوالدتها تماما، كثيفة الحاجبين وكأنهما سالفان.
لكن كيف للحرية من سبيل، وهل يجوز للموتى التحرر من إلحادهم، كيف تقضى على ذلك الصراخ الذى تسمعه باستمرار فى مشهد معاد ونغمة مكررة، إنه جائع، ذلك الطفل الذى حكمت الأيام عليه أن يكون ابنها.. ابن جميلة التى لا تجد قوتها أو قوته، بعد أن هرب والده، منذ عام كامل، لم يسأل فيه عنها أو عن طفلهما الرضيع، كيف تتحرر من ذنب عدم القدرة على إطعامه، وكيف تتحرر من صراخه الذى يدمى قلبها ويعمى عينيها من دموع جفت كما جف الأمل من حياتها.
لم يكن أمامها، سوى ارتداء النقاب، والتسول، لما لا، من سيعرفها فى هذا النقاب الذى يخفى الوجه والبدن، كل ما عليها أن تقول جملة أو جملتين لاستدرار عطف الآخرين، لكنها فشلت فى التسول، فشلت فى أن تمد يدها، فحتما إن أتعس الناس حالا من كانت له نفس الملوك وحياة المساكين، عادت تجر أذيال خيبتها، ذهبت لجارة فى تلك المنطقة العشوائية ذات البيوت المبنية بالصفيح، لتقوم بإرضاع طفلها، فهى على الأقل أفضل حالا منها، وصدرها مليء بلبن لا تملكه فى جسدها، ولا تملك شراءه.
أخبرتها الجارة أن جارة أخرى ظهرت عليها علامات الثراء المفاجئ ونجحت فيما فشل فيه الجميع، «اشترت تليفزيون 20 بوصة»، يا لهذا الثراء الفاحش الذى أسال لعاب جميلة، على الفور فكرت فى أمرين، الأول أن تذهب إليها وتطالبها بإعانة، والثانى، أن تجرد شقتها الصغيرة من كل الأموال التى فيها، فمن المؤكد أنها تملك مبلغاً مالياً قد يكون خياليا بالنسبة إليها، وليكن خمسمائة جنيه، لكنها تراجعت، فعزيز النفس، عزيز اليد أيضا، يده لا تمتد إلى ما يملكه الآخرون، فكان من الأسلم مطالبتها بإعانة، ذهبت وجلست وتلعثمت قبل أن تطلب، لكن الجارة كانت «ناصحة وتلقطها وهى طايرة»، علمت بحاجتها، فأكدت أن الإعانة الحقيقية التى تقدمها لها، هى وظيفة مربحة، تمكنها من تربية الطفل «أحسن تربية»، وفرحت جميلة، ربما كانت الفرحة الأولى فى حياتها، وكادت أن تطير من السعادة، بقى فقط أن تعرف ما هى الوظيفة.
فتاة ليل، يستحيل، وهل تأكل الحرة بثدييها، وإن أكلت، فكيف تجرؤ على الفعل، أكدت الجارة أن الأمر سيكون خاليا من المتعة، ووصفت من يقبل على الجنس الحرام بأنه «عيان»، ومن ترغم على الممارسة لتأكل فهى أشبه بالشخص الميت، إذا فهى علاقة جنسية بحتة بين عيان وميت، وحتما «لا العيان سيستمتع ولا الميت سيحس»، ولم يكن مفاجئا قبول جميلة للوظيفة الجديدة، وبقى أمر واحد أرادت معرفته، هل هذه الدمامة يمكنها العمل فى سوق الدعارة، وعلى ذلك أكدت الجارة اللعوب أن الدمامة سلعة ليست بائرة فى سوق المتعة، ذلك السوق الذى لا يفرق بين القبح والجمال تحت ستار الليل.
من يومها وجميلة تمارس الدعارة وتصرف على ابنها، قبل أن تضبط، وتدخل إلى السجن، تاركة ابنها، لجارتها اللعوب ترعاه.
جميلة، ضحية، أم آثمة، وعاهرة، أم أنها عاشت فى مجتمع أجبرها على التجارة بجسد لا تملك غيره، والحقيقة أنه رغم حقارة هذه المهنة، بقيت متعة وحيدة، أن جميلة أصبحت «مرغوبة» حتى وإن لم يحتملها الرجال فى النور وأجبروها على الظلام، الذى عاشته وتعيشه هى وأمثالها.