بصراحة لا مواربة فيها يقول عبداللطيف المناوى، رئيس قطاع الأخبار السابق «كنت أحب هذا الرجل، فقد كان متواضعاً بطريقته الخاصة، فعلى الرغم من كبر سنه وما يعانيه من مشاكل، إلا أنه كان إنساناً مثل أى شخص آخر». كان هذا تعليقاً على حوار تليفونى قصير دار بينه وبين الرئيس مبارك فى الساعات الأولى من صباح العاشر من فبراير الماضى، وهو اليوم الذى انتظر المصريون خطاباً منه يعلن فيه تنحيه عن السلطة، فإذا به يقول لهم إنه باق، مستهيناً بكل الغضب الذى أبداه المصريون تجاهه.. وتجاه عصره وفساده واستبداده وانحطاطه السياسى.
كان مبارك يتحدث على الخط الساخن مع أنس الفقى وزير الإعلام، حاول الفقى رفع معنويات الرئيس، قال له:«عبداللطيف هنا معى».. وناوله السماعة، كان الرئيس يسأل عنه، قال له الفقى هامسا:«حاول أن ترفع معنوياته».. ثم دار الحوار.
مبارك: إزيك يا مناوى.. عامل إيه.. شايف اللى بيحصل؟
المناوى: نعم سيادة الرئيس.. أتمنى أن كله يعدى على خير.. حنعدى اللى بيحصل ده والبلد مش هتغرق.
مبارك: أيوه.. أيوه بعد الحكاية دى ما تنتهى، عايز أعمل لقاء طويل أحكى للناس فيه كل حاجة عملتها للبلد دى خلال ال30 سنة اللى فاتوا.
لم يجد المناوى شيئاً يقوله، كرر فقط ما قاله مرة أخرى: إن شاء الله كله حيعدى على خير إن شاء الله، ثم أعطى السماعة لأنس الفقى وغادر المكتب، حيث انهمك الاثنان فى الحديث.
ورغم الحب الجارف الذي يبديه المناوى لمبارك، إلا أنه بعد هذه المكالمة شعر أن البلد فى حالة من الانهيار، حيث لا أحد يدرى إلى أين هو ذاهب، أدرك أن الرئيس فى عالم آخر، وأنه لا يفهم عمق الأزمة التى تعصف بالبلد، فهو لا يفكر فيما كان يجب القيام به فى الأيام القادمة، أو الساعات القادمة، ولكنه يفكر فى كيفية إقناع الناس فى وقت لاحق بإنجازاته خلال العقود الماضية.
هذه المقابلة يمكن أن تدلنا على مفتاح كتاب عبداللطيف المناوى المهم «الأيام الأخيرة لنظام مبارك.. .18 يوماً».. وهو الكتاب الذى صدرت طبعته العربية عن الدار المصرية اللبنانية، فهو مرتبك.. مريب فى كثير من المواقف، فهو يريد أن يبرئ نفسه من تهمة خيانة الثورة والعمل لإجهاضها والعبث بها متخلياً عن كل قيم المهنية الإعلامية.
المناوى لم يحاول تبرئة نفسه من تهمة خيانة الثورة فقط، بل حاول أن يبرئها من تهمة خيانة نفسه وقناعاته وتاريخه المهنى.
ففى صباح الثلاثاء السابع من فبراير – الساعة السادسة وأربعين دقيقة تحديدا - استيقظ المناوى على صوت رسالة على تليفونه المحمول، كانت الرسالة من الإعلامى الكبير حمدى قنديل، يقول له فيها:«أرجوك لا تربط اسمك بهذه الدعارة الإعلامية فى ماسبيرو، ماكنا نعرفه عنك، يجعل الكثيرين يطلبون منك استقالة فورية معلنة».
كتب المناوى رداً على هذه الرسالة – لم يرسله لقنديل بالطبع – قال: «إنى هنا لا أخدم أحداً إلا هذا الوطن، ولا أفعل إلا ما أراه لمصلحة الوطن، وإنى مسئول فى وضع المسئولية، وطالما أننى قبلت هذه المسئولية، ووضعت فى هذا الموضع، فلا أملك إلا أن استمر حتى تحسم المسألة، وبعدها لا أظن أننى سأبقى فى هذا المكان، لأن مسئوليتى تجاه هذا الوطن تفرض على ألا أرحل عن السفينة وهى تغرق».
هذه قناعة المناوى.. إنه لا يزال يعتقد أنه كان يخدم الوطن فى الثمانية عشر يوماً التى قضاها فى مكتبه بقطاع الأخبار، لم يخرج منه إلا مرات قليلة.. الأولى عندما أجرى حواراً مفصلاً مع نائب الرئيس عمر سليمان، والثانية عندما ذهب إلى أولاده فى بيته ليقول لهم إن أباهم لم يخن، وأنه يخدم وطنه، والثالثة عندما زار أحد أصدقائه فى المخابرات العامة باحثاً عن نسمة أمل أو بادرة اطمئنان.. فإذا به يجد عند صديقه إحباطاً وعدم معرفة بما يدور ولا بما سيأتى.
كتاب المناوى الذى كتبه بالأساس للقارئ الغربى – كان يجب أن تقوم الدار المصرية اللبنانية بتحريره بعد ترجمته.. فهناك من التفاصيل ما يمكن الاستغناء عنه تماما – محاولة منه لغسيل سمعته، لكنه وعلى هامش ذلك يفرج عن أسرار كثيرة جدا، بحكم قربه من الأحداث، وهى أسرار يمكن من خلالها أن نعيد صياغة كثير مما قيل وتردد عن الثورة خلال الشهور الماضية.
لم ينجح عبداللطيف المناوى فيما ذهب إليه.. حاول أن يثبت أن الثورة كانت مؤامرة كبرى.. وأن الإخوان المسلمين هم الذين قادوها.. وأن وائل غنيم عميل أمريكى.. وأن الجيش هو من حسم مصير مبارك.. ثم ومن طرف خفى يظهر الجيس ممثلاً فى قيادته أنه ظل حتى اللحظة الأخيرة حريصاً على مبارك وعلى بقائه.
كان يجب أن يخلد المناوى إلى نفسه أكثر من ذلك.. لقد حاول أن يحمى تاريخه المهنى بالتأكيد على أنه كان رافضاً.. وأنه كان يحاول أن ينقل ما يدور على الأرض.. وأنه كان يقود سفينة الوطن إلى بر الأمان، لكن فى النهاية جاء كل ما قاله هذا بلا قيمة، لأنه كان عبد المأمور، فى النهاية ينفذ كل ما يطلب منه.
قد تكون مأساة عبداللطيف المناوى أنه وجد نفسه ممزقاً بين أكثر من جهة.. النظام بجبهاته المختلفة والثوار.. كان يريد أن يرضى الجميع.. النظام لأنه يعمل لديه.. والثوار لأنه يرى أن لديهم حقاً – حاول أن يوحى بهذا أكثر من مرة – وفى النهاية لم يربح أحدا.. وكان أن خسر نفسه.
اعترف أن قراءة كتاب المناوى صعبة.. قرأته مرتين رغم تفاصيله المملة.. لأخرج بنتيجة واحدة أن الرجل اجتهد أن يقول الحقيقة.. لكن هذه من المرات القليلة التى صادفتها فى حياتى أعثر على حقيقة كاذبة بالكامل.