من المفترض أن يكون شأن مجال الدعوة الإسلامية كشأن بقية العلوم المستقرة في منظومة العلوم الإسلامية كعلم الأصول والفقه والحديث، والتي كانت حينا من الدهر مبثوثة بين ثنايا الحياة الإسلامية الأولى مع ما تضمه من معارف وفنون معاشة ولكنها لم تؤطر في صورة علم وقوانين معرفية إلا حينما دعت الحاجة إلى ذلك، فلما تطورت منهجيات العلوم بوجه عام اهتم العلماء بتأصيل مصطلحاتها ونظم قواعدها لتشكل في النهاية (علما) له قواعد وأحكام وضوابط،ونسق محدد غير أن مسيرة تأطير العلوم لم تأخذ طريقها إلى مجال الدعوة إذ الناظر إلى الدعوة من ناحية (العلمية) يجد أنها بحاجة ماسة إلى جهود كبيرة حتى يصبح علما ناضجا عميقا، فمجال الدعوة اليوم مجموعة من الكتب والبحوث الاستطرادية المعرفية التي لم تتحرر مصطلحاتها بصورة حدية دقيقة فاللبس مال زال واقعا بين الوسائل والأساليب والمناهج كما لم تنظم له قواعد مستقرة كالقواعد المستقرة في علم الأصول أو المصطلح او حتى التفسير على ما فيه من عدم اكتمال اما مناهج الدعوة فهي ليست مناهج بالمفهوم العلمي الذي يعني تراكمات سلوكية وعلمية كمناهج علم التربية أو الاجتماع إنما هو منهج مجازا يعني في الغالب سيرة النبي او الرسول في القرآن مع قومه ويكون تناوله غالبا أقرب إلى تناول التفسير الموضوع في قصص الأنبياء، إذن نحن أمام مجال بحاجة إلى جهد شاق مسيرة طويلة من التأصيل والتقعيد ليتم إنضاجه وسبر غوره لتتشكل في النهاية (علمية) مجاله في صورة علم مكتمل الجوانب والأركان ليكون شانه في ذلك شان العلوم التي لا تقل عن علم الدعوة قدما واهمية ومع ذلك حددت مصطلحاتها وضبطت قواعدها واستقامت مسيرتها في الوقت الذي ما زال علم الدعوة يعاني كثيرا من العمومية والاتساع والغموض. ولعل من اهم مواطن الغموض في علم الدعوة هو تطوره التاريخي الذي لم تعرف سماته ولم تحدد مراحله إلى الآن فالملاحظ لمسيرة التاريخية الدعوية يجد أن مسارين أساسيين: المسار الاول: وهو الدعوة بمعناها المعرفي القرآني الشامل التي تعني حث غير المسلم على الدخول في الإسلام، وهذا مفهوم قديم قدم الإسلام، ويصح أن نقول فيه أن الداعية الاول هو سيدنا آدم ثم جاء من بعده الانبياء بمناهجهم المختلفة التي أورد القرآن الكريم جزءا كبيرا منها وكان على رأسهم منهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء علماء الدعوة وأوردوها كمناهج دعوية للرسل عليهم الصلاة والسلام بمعنى (مسارات للإصلاح والتقويم) وليس بمفهوم المنهج في العلوم الحديثة وهذا المسار يصح أن نؤرخ للدعوة فيه بمعناها المعرفي الشامل وليس على أساس المنظومة المهنية المستقرة. أما المسار الثاني: والذي يعني أن الدعوة (منظومة منهجية متكاملة) ينتج عنها سلوك إنساني لداعية يحمل مشروعا تجديديا، او منظومة نهضوية من أجل إحياء معاني الإسلام التي رقت في نفوسهم، فخلت منها حياتهم، أو لغير المسلمين ليعرفهم بحقيقة الإسلام الحضارية، فهو مسار أقرب إلى المسار الاجتهادي في دقته لدى الفقهاء، يعمل فيه الداعية الذي هو أشبه بالعالم أو طالب العلم تراكماته العلمية، والشرعية ليتم إنزالها على واقع ما، بعد تحقيق مناط احكامه المناسبة لمتغيراته ليشكل في النهاية منهجا توعويا عاما يستوعب فيه شرائح المجتمع كافة بأنشطة وفعاليات، فهذا المسار وبتلك الكيفية حدث في التأريخ له اضطراب كبير، لأنه لم يستقر بهذه الصورة إلا في العصور المتأخرة التي كثرت فيها الدعوات الإصلاحية لا سيما بعد سقوط الخلافة، الأمر الذي جعل الأزهر يؤسس كلية متخصصة في الدعوة الإسلامية لتؤطر هذه التناثرات المنهجية في محاولة جادة لرسم معالم منهجية دعوية وسطية وهذا المسار الدعوي لا يصح التأريخ له من أول من كتب في علم الرقائق أو المواعظ أو أخبار المصلحين لتكون البداية لتاريخية لهذا المسار كأحد الباحثين الذي قال (فلو قيل ان ابن الجوزى المتوفى عام 597 ه رحمه الله هو واضع هذا الفن لم يكن بعيدا ) يقصد الدعوة وسبب ذلك عنده أن (ابن القيم سمى فن الدعوة بأسماء ثلاثة : القصص و التذكير و الوعظ) لأن هذا اختزال لعملية الدعوة وتقزيم لها في صورة أداء مواعظ أو قصص أو دروس إيمانية، إن التأريخ الحقيقي لدعوة المسلمين يجب أن يبدأ في الحقيقة من مسيرة التجديد لأمتنا وليس بأول من كتب في المواعظ والرقاق وذلك حتى نعيد للدعوة جلالها وقدرها فالدعوة التي نأملها اليوم من الدعاة دعوة تجديدية في المساجد والزوايا تدرس الواقع بعناية لتقدم خطابا حضاريا للناس يتناول كل شئون حياتهم بدقة وليس خطابا باليا لا يخرج عن كونه مجموعة من المواعظ التي تقال خلف الصلوات وكانت تقال لزمان غير زماننا ولقوم ليس منهم أحد بيننا,