شهدت الآونة الأخيرة تلويحًا أمريكيًّا بالتدخل العسكري في سوريا، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية تمانع خلال السنوات السابقة إطلاق عملية أمريكية مباشرة في الميدان السوري، معتبرة أن هذه الخطوة قد تسبب تدخلًا أمريكيًّا أعمق في الحرب السورية، لكن بعد فشل وقف الأعمال القتالية في سوريا بموجب الاتفاق الروسي الأمريكي، وتصعيد الوضع في حلب، سجل بعض المسؤولين رفيعي المستوى تحولًا ملموسًا في موقف وزارة الدفاع الأمريكية، وأكدوا احتمالية نشوب حرب مدمرة ودموية واسعة النطاق بين الولاياتالمتحدةوروسيا في الميدان السوري، لكن هناك أسبابًا تمنع واشنطن من التدخل في سوريا في الوقت الراهن. أوباما والمدة الرئاسية لا يعتقد كثيرون أن الظروف السياسية مهيأة لتدخل عسكري في سوريا، خاصة أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، لم يتبق في مدة رئاسته سوى أربعة أشهر، قبل مغادرته منصبه نهائيًّا، وبالتالي اتخاذ قرار بالتدخل العسكري لا يعد أمرًا مقبولًا؛ لأنه سيفرض خططًا استراتيجية قد لا يرغب أي من مرشحي الرئاسة الأمريكية سواء كان ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا في تبنيها. المناظرة الأخيرة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، التي جرت أمس، كشفت أن الأخيرة لا تعتزم إرسال قوات عسكرية إلى سوريا في حال توليها الرئاسة؛ لأن ذلك سيعد استيلاءً على الأراضي في سوريا كقوة احتلال، وسيكون «استراتيجية غير عقلانية»، وأضافت أن التواجد العسكري في سوريا قد يكون في إطار عدد محدود من القوات الخاصة والمستشارين الأمريكيين. كما رفض المرشح الجمهوري دونالد ترامب، موقف المرشح عن حزبه لمنصب نائب الرئيس مايك بينس، الذي لم يستبعد، في تصريح سابق له، إمكانية شن ضربات على الأهداف التابعة للنظام في سوريا، وأكد ترامب بهذا الصدد: «لم نبحث ذلك، ولا أوافق»، كما أن الجمهوري أضاف: «لا أتعاطف مع الرئيس السوري بشار الأسد، لكنه يحارب تنظيم داعش، كما تحاربه روسياوإيران». كما أن موقف الرئيس الأمريكي نفسه مازال ثابتًا بشأن عدم التدخل عسكريًّا في سوريا، وهو الموقف الذي طالما دافع عنه، فأوباما دائمًا ما يعبر عن اعتزازه بتجنيب بلاده ويلات الحروب طيلة فترة حكمه، الأمر الذي يحاول الديمقراطيون استثماره في الانتخابات الرئاسية الجارية، خاصة أن شعار أوباما في حملته الانتخابية الأولى عام 2008 كان «لا مغامرات لرعاة البقر مرة ثانية، لا تحركات من جانب واحد، لا غوانتانامو بعد اليوم. يمكننا أن نسمو عن طريق العمل الدبلوماسي إلى مستوى أخلاقي أعلى، أيد نظيفة، ضمير لا يؤرقه شيء، القوة الذكية»، وأكد مسؤول في البيت الأبيض، أمس، في حديث ل«واشطن بوست» أن موقف أوباما من التدخل العسكري في سوريا «ثابت»، موضحا: «نؤمن بأنه لا حل عسكري لهذا النزاع، هناك عدد من التحديات قد تؤدي إلى اعتماد القوات العسكرية في هذه الظروف». واشنطن وحلفاؤها القوات العربية هي رأس الحربة لأي تدخل أمريكي في سوريا، فالولاياتالمتحدة ليست على استعداد لخسارة جنودها في المستنقع السوري، وهذا الأمر أشار إليه نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن أكثر من مرة في دعوته المتكررة لتشكيل ما يسمى بالتحالف الإسلامي العسكري، حيث تتولى مجموعة من المستشارين العسكريين الأمريكيين مهمة القيادة والإشراف، بينما يتولى الجنود العرب المهام القتالية على الأرض السورية. ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي ألمح إلى إمكانية استخدام هذا التحالف، الذي يقوده ضد الأسد، لا يبدو قادرًا على لملمة هذا التحالف، لمجموعة من الأسباب، يعود أحدها إلى العلاقة المتردية بين الرياضوواشنطن، إثر تمرير الكونجرس الأمريكي قانون «جاستا»، الذي يسمح بمقاضاة أفراد أمريكيين للحكومة السعودية في محاكم محلية بتهمة تورط المملكة بأحداث 11 سبتمبر، الأمر الذي من شأنه استنزاف خزينتها، بالإضافة لإبرام واشنطن ودول غربية أخرى الاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي لم تخف المملكة استياءها الشديد من الخطوات الأمريكية، كما أن الولاياتالمتحدة لم تعد قادرة على دعم خطوات الرياض المتهورة في المنطقة، بتمويلها الفكري والمالي للجماعات الإرهابية في سوريا والعراق واليمن والبحرين، بالإضافة لانتهاكاتها الصارخة للمعايير الإنسانية والأخلاقية في اليمن باستهدافها للمدنيين، كمجزرة «القاعة الكبرى» في اليمن مؤخرًا، الأمر الذي يشوه صورة أمريكا «المزعومة» كدولة تدعي رعاية الديمقراطية في العالم. من جهة أخرى المملكة نفسها لم تعد قادرة على تمويل هذا التحالف، بعد انخفاض أسعار النفط وعجز ميزانيتها واتباعها لسياسة التقشف مؤخرًا، بالإضافة للنفقات الضخمة التي تتكبدها السعودية نتيجة عدوانها على اليمن. في المقابل بعض الدول التي كانت من المفترض أن تشكل عصب هذا التحالف كمصر وتركيا، أبدت مؤخرًا تقاربًا كبيرًا مع روسيا غريمة أمريكا، فمصر دخلت في اتفاقيات استراتيجية مع موسكو في بناء محطة نووية، كما قامت بتدريبات عسكرية مشتركة آخرها فرقة المظليين، ويجري الحديث حاليًا عن إمكانية استئجار روسيا قاعدة مصرية، كما أن تصويت مصر لصالح المشروع الروسي في مجلس الأمن، السبت الماضي، يقع ضمن هذا التقارب. ولا يختلف الحال عند أنقرة، خاصة بعد تصالح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل على العكس ظهر تباعد في المواقف بين تركياوواشنطن، على خلفية رفض الأخيرة تسليم فتح الله جولن لتركيا؛ لاتهامه بمحاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضي. واشنطن وجبهة النصرة وهناك سبب آخر لسعي الإدارة الأمريكية الحالية إلى تجنب التدخل العسكري في سوريا يتمثل في تنظيم جبهة فتح الشام «جبهة النصرة سابقًا» حيث ترى الاستخبارات الأمريكية أنه سيمثل الجهة المنتصرة الوحيدة في حال إقدام الولاياتالمتحدة على إطلاق حملة ضد الجيش السوري، لاسيما أن هذه الحركة الإرهابية تخطط، بحسب المسؤولين الأمريكيين، لشن هجمات خارجية ضد الولاياتالمتحدة. واشنطنوموسكو روسيا تبدو جادة في الدفاع عن صواب قرارها في تواجدها بسوريا كجزء مهم من آلية حماية أمنها القومي، ولا يبدو أنها ستتراجع عنه قيد أنملة، فرغم أن مسؤولًا أمريكيًّا رفيعًا، قال: من بين اقتراحات البنتاغون بشأن التعامل مع التطورات الجارية في حلب، شن ضربات على وحدات الجيش السوري المشاركة مباشرة في عمليات حلب باستخدام صواريخ مجنحة، إلَّا أن روسيا لم تقف صامتة أمام تلك الاقتراحات. وحذرت روسيا، الخميس الماضي، من أن استهداف القوات النظامية السورية يعد استهدافًا لقواتها، وأضافت أن صواريخها المضادة للطائرات والصواريخ لا يمكنها تمييز أماكن انطلاقها، الأمر الذي يشير إلى أن روسيا عازمة لدخول حرب للحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا، حيث إن روسيا تمتلك ثمان قواعد عسكرية على مستوى العالم، في المقابل تمتلك واشنطن آلاف القواعد العسكرية. ويرى مراقبون أن التهويل الأمريكي بالتدخل العسكري السوري، ما هو إلَّا سياسة متفق عليها داخل الإدارة الأمريكية، بحيث إذا أرخى الدبلوماسيون الأمريكيون الحبل في الملف السوري، فعلى عسكرييها شد الطرف الآخر من الحبل، بحيث تستطيع واشنطن تحقيق أي مكسب سياسي في سوريا على قلة أوراقها الفاعلة فيها.