بحلول عام1805 وصل محمد على إلى قمة السلطة في مصر، وبدأ عهد اتسم بروح وثابة تسري في أوصال وطن أنهكته الأزمات وتواطأ على استنزافه الطامعون من كل جنس، يظهر على مسرح الأحداث فيه شاب في نحو الخامسة والثلاثين، لا تعرف طموحاته حدودا، وهو وإن كان ألباني المولد عثماني النشأة إلا أنه لم يعرف للوطن معنى إلى هنا على ضفاف النيل. في طريقه الوعر إلى إنشاء دولة حديثة وجد محمد علي أن الحاجة ملحّة لوجود رجال أكفاء يستطيع من خلالهم النهوض بتلك المهمة الصعبة، وكان أن توجه لإيطاليا التي لم تكن قد توحدت بعد على شكلها الحالي، وكانت أولى البعثات إلى هناك لدراسة العلوم العسكرية والهندسة وتشييد السفن الحربية، وانطلقت البعثة إلى مقصدها بعد نحو أربع سنوات من توليه السلطة في البلاد. كان محمد علي قد جمع عددا من أطفال المماليك عقب مذبحة القلعة، وكانوا نحو ثمانين طفلا افتتحت لهم مدرسة حربية في القلعة درسوا فيها إلى جانب المواد العسكرية القراءة والكتابة واللغتين التركية والفارسية وحفظوا القرآن الكريم، وكان ذلك في عام 1816م. بعد ذلك بعامين وصل إلى انجلترا نحو عشرين طالبا تركيا كان محمد على قد أرسلهم لدراسة بناء السفن الحربية. بعد ذلك أنشئت مدرسة للهندسة في القلعة –أيضا- لتكون نواة لمدرسة أخرى أكثر تطورا ستنشأ في بولاق عام1821م، كان هدف محمد علي من إنشاء تلك المدرسة هو تخريج طلاب ذوي معرفة بعلوم المساحة حيث كانت المساحة وكل ما يتعلق بها في أيدي الأقباط الذين دأبوا على تعقيد أعمالهم بحيث يصعب الأمر على غيرهم، وقد فطن محمد على إلى ذلك، واستطاع رويدا رويدا أن ينحيهم ويحل محلهم خريجي تلك المدرسة. الكولونيل سيف يؤسس المدرسة الحربية في إسنا بأمر من محمد علي لظروف عديدة يتراجع الإيطاليون الذين كانوا حول الباشا ليحل الفرنسيون محلهم، وذلك بوصول الكولونيل سيف أحد ضباط الحملة الفرنسية، الذي سيكلف بإنشاء المدرسة الحربية في إسنا حيث ذهب إلى هناك رفقة أربعة آلاف من المماليك، وهناك واجه صعوبات جمة في التواصل معهم بسبب اللغة، لكنه سرعان ما أثبت كفاءة غير عادية وأدار دولاب العمل في المدرسة بشكل مرض، مما دفع لتوسيع التجربة بإنشاء معسكرات مماثلة في عدد من مناطق الصعيد، تولى الإشراف عليها الضابط الفرنسي وآخران من الأتراك. في العام 1825م نقلت مدرسة بولاق إلى قصر العيني وأطلق عليها مدرسة الجهادية، وقد حوت المدرسة أخلاطا من الدارسين لم يكن بينهم مصري واحد، وما لبثت المدرسة أن نقلت إلى منطقة أبي زعبل في العام1836م، وعندما أنشئت مدرسة أركان الحرب خلت أيضا من المصريين. كما تم افتتاح مدرستين للموسيقى العسكرية، لكن النتائج لم تكن مرضية إذ كان على الطلاب دراسة وعزف الموسيقى العسكرية الفرنسية البعيدة كل البعد عن الطابع المصري والعثماني، تلا ذلك افتتاح مدرسة الفرسان التي ضمت طلابا أتراك ومماليك وعدد قليل من المصريين، وقد تلقى طلاب هذه المدرسة تعليما جيدا في اللغات والموسيقى العسكرية وعلم الإدارة الحربية، كما افتتحت مدرسة المدفعية بطرة ومدرسة المشاة بمنطقة الخانكة، ثم نقلت إلى دمياط ثم أعيدت إلى أبي زعبل، وكان حسن بك القبرصلي قد أدار المدرسة البحرية الأولى التي أقيمت في الإسكندرية في 1825م وبسبب تحطم الأسطول المصري في نفارين أمر محمد على بنقل المدرسة إلى رأس التين، وإعادة بناء الأسطول بشكل موسع، كما أنشئت مدرسة الأسلحة والذخيرة عام 1833 وتلتها مدرسة المعادن. كلوت بك مؤسس أول مدرسة للطب بمصر كما تم تأسيس أول مدرسة للطب في مصر على يد كلوت بك، وبدأت الدراسة بها بإنشاء مستشفى أبي زعبل عام 1827م، ولأول مرة كان جميع طلاب المدرسة من المصريين، عقب ذلك بعامين افتتحت مدرسة للصيدلة ثم أخرى بأبي زعبل بإدارة إيطالية، كما افتتحت مدرسة للولادة وأخرى للبيطرة برشيد ثم نقلت إلى القاهرة. وامتدادا لدار الهندسة التي أنشئت عام 1820م تم افتتاح المهندسخانة عام 1834 واعتبرت المدرسة مركزا للفرنسة، وتحقيق بعض الأهداف الفرنسية في مصر التي سيأتي على رأسها حفر قناة السويس. أقيم أيضا عدد من المدارس كمدرسة الكيمياء ومدرسة الصنايع برشيد ومدرسة الري في بولاق ومدرسة الألسن التي تولاها رفاعة الطهطاوي كما سبق ذلك افتتاح الدرسخانة الملكية لتخريج المحاسبين والكتبة، ومدرسة الزراعة التي فشلت فشلا غير مسبوق وكانت بنبروه ثم نقلت إلى شبرا، ثم تحولت إلى مزرعة طواها النسيان، كما تم فتح مدرسة القانون الإداري في عام 1840. كان قرار مصادرة أموال وأملاك الأوقاف من القرارات بالغة السوء على التعليم في الكتاتيب والمساجد والأزهر، وأصبح الإنفاق على التعليم فيها تابعا لميزانية الدولة؛ فساء حاله بدرجة لا توصف وانصرف الناس عن إرسال أبنائهم للكتاتيب والمساجد، وكان النظام المعمول به سلفا يقرر لهؤلاء الطلاب راتبا وزيا وطعاما مما يعين الأسرة بعض الشيء على أعباء المعيشة، وكان كل ذلك يتأخر أو ينقطع بسبب نظام الإنفاق الروتيني المتبع في نظام محمد علي. كما أن أخذ الطلاب من الكتاتيب وتلك المدارس وإلحاقهم بالمدارس المتخصصة التي أنشأها محمد على، وكانت كلها تتيع نظاما عسكريا صارما ويعتبر الانخراط فيها شكلا من أشكال التجنيد القسري الذي كرهه المصريون- دافعا آخر للآباء على إبعاد أبنائهم عن تلك الكتاتيب والمدارس؛ حتى ساءت أحوالها بدرجة لا توصف، كما هدمت المساجد وهجرت، حتى أن الصعيد ومديرية الشرقية قد اختفت منهما الكتاتيب بشكل شبه كامل؛ مما حدا بمحمد على إلى إصدار الأوامر بإعادة فتح الكتاتيب في الصعيد والشرقية والإشراف عليها وإرسال من يتم تعليمه فيها إلى مدارس القاهرة. وفي محاولة لكبح مخاوف الأهالي تقرر إنشاء ديوان المدارس عام 1837م إذ كانت تبعية المدارس قبل ذلك لديوان الجهادية، وكانت هذه المحاولة إعادة تنظيم للتعليم، وفصله عن التعليم العسكري، وتم افتتاح نحو 41مدرسة ابتدائية في مختلف مديريات مصر، وتم تعيين نظارها من شيوخ الأزهر، كما افتتحت مدرسة تجهيزية في القاهرة ضمت نحو1500 وكانت تابعة لديوان المدارس أيضا، وكانت تعد طلابها للالتحاق بالمدارس المتخصصة كالطب والهندسة والزراعة ونحوها. رفاعة الطهطاوي أبرز المبعوثين إلى الخارج في عهد محمد علي كانت البعثات العلمية إلى أوروبا قد بدأت بالبعثة إلى إيطاليا عام 1809 م واستمرت نحو تسع سنوات، كما أرسلت بعثة إلى إنجلترا لدراسة بناء السفن كما ذكرنا آنفا، واستمرت البعثات حتى عام1848م، وتعتبر أكبر البعثات التي توجهت إلى فرنسا عام 1826م وتكونت من44 طالبا، وتابع الطلاب دراستهم وكانوا يخضعون لامتحانات شهرية تعرض نتائجها على محمد علي، وكان من أبرز المبعوثين رفاعة الطهطاوي الذي سافر كإمام للبعثة لكنه انخرط في دراسة اللغة الفرنسية، وتخصص فيما بعد في الترجمة. وقد تم إرسال بعثة ثالثة بين عامي 1828 و1836 إلى فرنساوإنجلترا ضمت 108من الطلاب، كان أكثرهم من المصريين، ومنهم طلبة أزهريين سابقين وذلك لدراسة الطب والصناعة والبحرية والهندسة والخدمات البيطرية. كما تم إرسال بعثة رابعة إلى إنجلترا بين عامي1837 و1843. وكانت آخر بعثة أرسلها محمد علي في الفترة ما بين 1844 و1849 وسُميت ببعثة الأنجال لأنها ضمت بعض من أبناء وأحفاد محمد علي، وقد درس المبعوثون الهندسة الحربية والمدفعية والقانون والميكانيكا وغيرها، وكان من أبرز الدارسين فيها علي مبارك الذي سيتولى فيما بعد ديوان المدارس، وعدة مناصب وزارية رفيعة في عهد إسماعيل. قدرت البعثات العلمية في عهد محمد علي بنحو سبع بعثات، ويمكننا القول أن مبعوثي تلك البعثات قد قدموا أجل الخدمات للدولة، برغم ما تعرضوا له من مواقف نتجت بسبب حقد رؤسائهم والموظفين الأجانب الذين رأوا أن هؤلاء سيحلون محلهم عاجلا أم آجلا، لكن هؤلاء المبعوثين استطاعوا الوصول لأعلى المناصب، وشكلوا ما يمكن تسميته بالأرستقراطية المصرية. بالتوقيع على معاهدة لندن1841م كان مشروع محمد علي قد انتهى عمليا، وتبع ذلك انهيار متسارع في شتى المناحي، وكان التعليم صاحب النصيب الأكبر من هذا الانهيار إذ ارتبط بالجيش الذي تم تخفيض عدده إلى18000 جندي بعد أن كان قد ناهز الربع مليون. أغلق العديد من المدارس حتى وصل العدد إلى قرابة النصف، وكان المتضرر الأول المدارس الابتدائية، ورأت الدولة أنه لا حاجة إلى متخرجين في ظل الأوضاع الجديدة، وبرغم ثراء تجربة التعليم في عهد محمد علي إلا أنها في النهاية أفضت إلى نتائج مخيبة للآمال، وربما كان التسرع الواضح في تنفيذ ما وضعه محمد من خطط سببا، كما أن الإكراه الذي صاحب التعليم، واتباع النظم شديدة الصرامة، كاقتطاع الطلاب من ذويهم لسنوات، أسباب أخرى أدت إلى انهيار التجربة بشكل متسارع. لكن تجربة محمد علي لاشك تعتبر تجربة هامة ومؤسسة وذات جوانب إيجابية لا تنكر، وقد كان لها من الآثار المحمودة ما سيمتد بعد ذلك لفترة طويلة.