وصولًا إلى مشروعه الأهم خطا الدكتور محمد عابد الجابري خطوات مهمة وذات تأثير كبير بوضعه كتابين مهمين، هما: نحن والتراث 1980 والخطاب العربي المعاصر 1982 والذي يعتبر مدخلًا حقيقيًّا لمؤلَّفه نقد العقل العربي، وهو ما أشرنا إليه سلفًا بالمشروع الأهم للجابري، هذا العقل الذي رأى الجابري أنه ألغى الزمان والتطور، إذ قصر النظر إلى الحاضر والمستقبل على الرؤية الماضوية، حتى صار هذا العقل خارج التاريخ وراكد بالكلية لا حراك لديه ولا قدرة على الاستشراف، وبحسب الجابري فإن هذا العقل قرأ التراث قراءة سلفية، خلعت على الماضي القداسة والتنزيه؛ حتى صوره ملهمًا وحيدًا لحلول ما نعانيه في واقعنا العربي من مشكلات آنية ومستقبلية. رأى الجابري أنه برغم المحاولات العديدة للوصول إلى مكمن الداء فيما آلت إليه أحوال الأمة العربية، إلَّا أن أصابع الاتهام لم تشر إلى الفاعل الرئيس في كل ما حدث، ألا وهو العقل العربي الذي عرفه بأنه تلك القوة أو المَلَكَة أو الأداة التي يرى بها العربي واقعه ويتفاعل معه، ويقرأ ويفكر ويحلم من خلاله؛ فبدأ الجابري بتشريح هذا العقل بداية من مرحلة التكوين، مرورًا ببنية هذا العقل وخصائصه، وصولًا إلى العقل السياسي وانتهاءً بالعقل الأخلاقي، ولا شك أن الجابري بهذا الإسهام قد سبق غيره، إذ بلور رؤية معمقة ذات أسس منهجية عن العقل العربي، نعتقد جازمين أنها الأولى في ميدانها دون سوابق تذكر. لا شك أن الجابري يمثل بتجربته الفريدة كمثقف عمل بالسياسة، وكان حزبيًّا لفترة طويلة، نموذجًا يستحق الدراسة والتأمل، فالسياسي لديه انحيازاته الأيدلوجية التي تبتعد به عن الحيدة العلمية، لكن الجابري رأي أن التلازم بين المثقف العضوي صاحب الأطروحة الفكرية، والسياسي أمر ضروري بشرط أن يظل المثقف دائمًا فوق السياسي، موجهًا له بينما يجب على السياسي أن يبني مواقفه وفق ما وصل إليه المثقف من رؤى شاملة ونظريات، وربما لم يكن الأمر في الواقع على النحو الذي بينّاه، إلا أن الرجل حاول قدر ما يستطيع تقديم هذا النموذج بحسب ما سمحت به ظروف العمل السياسي في بلاده، مستفيدًا بشكل آخر من مناخ يتيح حرية البحث العلمي والاجتهاد الفكري، دون ملاحقات تذكر؛ ونشير هنا إلَّا أن الجابري لم يسلم من دعاوى التكفير، خاصة بعد إصداره كتابه مدخل إلى القرآن الكريم ثم كتابه فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، وبالرغم من أن الجابري لم يأتِ فيهما بجديد من عنده، إذ جمع فيهما عديدًا من المصادر المعتمدة، إلَّا أنه هوجم بشدة من قِبَل المتسلفة وأشياعهم حتى أنهم ابتهجوا أيما ابتهاج بوفاته، ونشروا الخبر عبر مواقعهم تحت عنوان: هلاك الضال الجابري! في حين انتصر عديد من علماء الدين للجابري ولرؤاه حول الدين، الذي كان يرى إشكاليته متعلقة بطريقة طرحه كممزق للهوية، تحت دعاوى التمذهب والطائفية، بينما من الواجب أن يتم التعامل معه كباعث على الوحدة وجامع لكلمة الأمة، كما كان يرى أن الخلفية الإسلامية في المجال السياسي، لا تتنافى مطلقًا مع المنطلقات الحداثية والتقدمية، ومن المعروف أن الجابري رحل عن عالمنا في العام 2010م يعني قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، التي أكدت أن الخلفية الإسلامية في المجال السياسي شديدة الخطورة، ليس على مجال السياسة فحسب، بل على بقاء الأوطان ووحدتها وتماسكها. أما عن الإشكالية القديمة المتعلقة بعلاقة الدين بالعلم؛ فيرى الجابري أنه لم يكن في الإسلام صراع بين الدين والعلم، كما كان حال أوربا. ولم يحرّم علماء الدين المسلمون القول بدوران الكرة الأرضية، بينما حرمه رجال الكنيسة! والرجل أيضًا لا يقر بالصراع بين الدين والسياسة في عالمنا العربي؛ بل يقول بأن الصراع في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية كان بين الفلسفة والسياسة، كما رأى الجابري أنه علينا تبني طريقة جديدة في التعامل مع التراث، الذي سلكنا معه منذ القرن التاسع طريقين لا ثالث لهما: الأول الدعوة إلى سحب الماضي وإلغائه وتبني الحداثة كما هي، والثاني الدعوة إلى فعل عكس ذلك. وهذان الاتجاهان في رأيه قد وصلا إلى طريق مسدود. يقول الجابري: إن من غير الممكن صناعة بشر آخر بتراث آخر وبمفاهيم أخرى؛ فأوربا عندما استفادت من التجربة الحضارية العربية بكل جوانبها، أعادت بناءها من داخل أوربا نفسها، لقد استرجعوا ابن رشد ليس كما نعرفه نحن، بل كما صنعوه هم، ونفس الشيء يقال عن ابن سينا.. إن الهوة التي تفصل الماضي والمستقبل الذي نريده لنعيش عالمنا لا يمكن أن تردم إلَّا بجسور نبنيها من داخلنا بأدوات جديدة، وبالتفتح على كل ما يمكن أن يساعدنا، ويقول للذين يريدون طي صفحة الماضي نهائيًّا: إن "الصفحات المطوية" ستبقى في الكتاب، ويجب أن تبقى لتفتح من جديد، ولنصحح قراءتها من جديد. يستحق الدكتور محمد عابد الجابري منا أن نعيد قراءته مرات ومرات، كما علينا أن نحاول صنع واقعنا وفق ما توصل إليه هذا العالم الجليل من أسس ونظريات يمكن أن تبلغ بنا عتبة النهوض من كبوتنا التي طالت بشكل لا يكاد يصدق.