رغم أن الأنظمة المتعاقبة التي جاءت عقب ثورة يناير وضعت في دساتيرها نصوصاً أساسية بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وتحظر وتؤثم التدخل في أية قضية أو أي شأن من شئونهم من جانب أية سلطة أو أي شخص، إلا أن هذه الحكومات ذاتها لم تتوقف طوال هذه السنين عن النص في القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تمامًا، بل ويخالفها بنصوص صريحة تصادر بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته، كما تسند بها بعض اختصاصات القضاء الطبيعي إلى غيره، وتصدر قرارات وتصرفات واقعية أخرى من خلال وزارة العدل، وهي أحد فروع السلطة التنفيذية، تسيطر بها على إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم بل وأحكامهم القضائية. كما حاولت الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد استقطاب القضاة تارة وأخرى محاولة إخضاعهم؛ لتشهد الدولة نزاعات عديدة خلال تاريخها، خاصة في العقود الأخيرة من حكم المخلوع مبارك وإبان ثورة يناير 2011. "البديل" رصدت مصادمات القضاء مع النظام على مدار العهود الماضية على النحو التالي: القضاء والسلطة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك كانت بداية العلاقة بين مبارك والمؤسسة القضائية جيدة، وتم الاحتفال بالعيد الأول للقضاة في عهده، كما قام بزيارة دار القضاء العالى؛ لمشاركتهم الاحتفال، فيما تعد أول زيارة لرئيس مصري للمشاركة في عيد القضاة. وفيما بعد بدأت العلاقة في التوتر، حيث شهد عام 1986 عقد القضاة ل "مؤتمر العدالة الأول"، الذي تقدموا فيه بعدد من المطالب لتحرير السلطة القضائية مِن الهيمنة الإدارية والمالية للسلطة التنفيذية، وكان في مقدمة هذه المطالب نقل تبعية التفتيش القضائي وصندوق الرعاية الصحية من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الأعلى، وتخصيص موازنة مالية منفصلة للقضاة. والأمر الأبرز في هذا المؤتمر هو مهاجمة المستشار يحيى الرفاعي، رئيس نادي القضاة في مصر، لمبارك في حضوره بشدة؛ بسبب تمديده قانون الطوارئ لعامين ومطالبته باستخدام سلطاته لإلغائه، وكانت هذه الحادثة بداية لتوتر شديد في علاقة مبارك بالقضاء. تزوير انتخابات 2005 وقانون السلطة القضائية فجرت المستشارة نهى الزيني هذا الأمر في لجنة دمنهور، وتبع ذلك تحويل المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي إلى مجلس تأديبي بتهمة الخروج على التقاليد القضائية والإضرار بسمعة القضاء المصري بحديثهما لمحطات فضائية وصحف مصرية وعربية عن التجاوزات التي وقعت في الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 2005 واتهام بعض القضاة بالتورط في التزوير. كما قرر أعضاء نادي القضاة برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز الاعتصام؛ احتجاجًا على مجالس تأديب القضاة وللمطالبة بصدور قانون السلطة القضائية الذي يحقق للقضاة استقلالهم بمنح المجلس الأعلى للقضاء سلطة التفتيش القضائي بدلاً من وزارة العدل، كما يعطي للقضاء موازنة مستقلة، وهي المطالب التي أيدها وزير العدل محمود أبو الليل في كلمة له في مجلس الشعب يرجح أنها تسببت في إقالته لصالح ممدوح مرعي، قبل أن يتم تمرير قانون السلطة القضائية الجديد وتمديد سن التقاعد للقضاة؛ من أجل التمديد لرؤساء المحاكم الموالين للنظام وتقليص صلاحيات نادي القضاة، ولم يدرِ مبارك أنه سيأتي عليه يوم ما ليجد نفسه أمام القضاء في قفص الاتهام، وتتم محاكمته على أخطائه الجسيمة التي ارتكبها بحق شعبه ووطنه. وفى عام 2006 شهدت الأزمة بين القضاة والدولة تصعيدًا غير مسبوق مؤخرًا، وحدث ما سمي ب "انتفاضة القضاة"، التي دعا لها عدد من رموز القضاة، يتقدمهم رئيس النادي آنذاك المستشار زكريا عبد العزيز؛ احتجاجًا على نظام الرئيس الأسبق، مطالبين باستقلال القضاء والإشراف الكامل على الانتخابات. القضاء المصري في حكم المجلس العسكري بدأت الخلافات بالتحديد في شهر مارس عام 2012، في أعقاب سفر المتهمين الأجانب المحبوسين في قضية ما يعرف ب "التمويل الأجنبي" وتسبب المستشار عبد المعز إبراهيم، رئيس محكمة الاستئناف، في تنحي القاضي المكلف بنظر القضية. كما شهد مايو من نفس العام قيام القاضي أحمد رفعت بتبرئة أغلب رموز نظام مبارك في قضية قتل المتظاهرين أثناء ثورة يناير، مما أثار سخطًا شعبيًّا واسعًا، كما هاجم المستشار أحمد الزند، رئيس نادي القضاة، أعضاء مجلس الشعب الذين أبدوا استياءهم من الحكم ورغبتهم في تعديل قانون السلطة القضائية وخفض سن المعاش للقضاة؛ من أجل الإطاحة برموز قضاء مبارك، مؤكدًا أنه لن يسمح للبرلمان بتغيير قانون السلطة القضائية. وفي الشهر التالي أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا ببطلان قانون انتخابات مجلس الشعب، بعدها أصدر المجلس العسكري إعلانًا دستوريًّا يسترد السلطة التشريعية عشية الانتخابات الرئاسية، واعتبره ردة عن ثورة يناير. القضاء والسلطة في عهد محمد مرسي شهدت تلك الفترة أحكامًا بالبراءة في جميع قضايا قتل المتظاهرين إبان ثورة يناير، باستثناء قضية إستاد بورسعيد، حيث تم قبول الطعن على أحكامها مؤخرًا، فيما عُرِفَ إعلاميًّا باسم "مهرجان البراءة للجميع". كما وقع صدام بين الرئيس محمد مرسي، صاحب السلطة التشريعية وقتها، والمحكمة الدستورية العليا ونادي القضاة؛ بسبب قراره بعودة مجلس الشعب المنحل، وازداد الصدام اشتعالاً بعد إعلان 22 نوفمبر 2012 الشهير الذي حصن الرئيس مرسي فيه قراراته من الطعن القضائي لحين انتخاب مجلس النواب. فيما شهدت الساحة القضائية صراعًا داخليًّا، بعدما أعلن عدد من القضاة عن انتمائاتهم السياسية وتأييدهم للرئيس المعزول محمد مرسى، وأسموا أنفسهم ب "قضاة من أجل مصر"، فيما تسبب هذا فى مطالبة بعض القضاة لهم بترك مناصبهم القضائية إن لم يتراجعوا عما يفعلونه، وتصدر حالة الصدام حينها رئيس نادى القضاة المستشار "أحمد الزند". القضاء والرئيس المؤقت عدلي منصور وعن علاقة المستشار عدلي منصور بالقضاء، فقد شهدت حالة من الوئام والهدوء، والسبب في ذلك هو أنه في الأساس رجل قضاء في المقام الأول، وتولى منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا. وقد شهدت فترة ولايته عدة أحكام بالبراءة لرموز نظام مبارك، على الجانب الآخر صدرت أحكام مغلظة بحق شباب وفتيات في قضايا الرأي، وصلت إلى عقوبات بالسجن المشدد. السيسي والقضاة سمن على عسل قرر الرئيس عبدالفتاح السيسي عودة الاحتفال بعيد القضاة، وقام بزيارة دار القضاء العالي؛ لمشاركتهم الاحتفال؛ ليكون بذلك ثاني رئيس مصري يزور القضاء منذ تأسيسها؛ ليأتي ذلك تأكيداً على رغبة السيسي في توطيد علاقة النظام بالمؤسسة القضائية؛ لتلافي الأخطاء التي وقع فيها سابقوه. سياسيون: مصادمات النظام والقضاء عرض مستمر.. والسيسي كسر القاعدة يرى سياسيون أن النظام والقضاء دائماً ما كانا على خلاف مستمر؛ وذلك لرغبة الأول في السيطرة على البلاد، دون أن يقف شيء في طريقه. أما الآخر فمن المفترض به أن يعطي الحقوق لأصحابها دون النظر لمكانة الظالم أو المظلوم، وهو ما يتعارض مع أسس الديكتاتورية التي يسعى كل نظام لفرضها على شعبه. ويقول ناصر الأمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، إن عهد مبارك شهد اعتداء من جانب النظام على الهيئة القضائية من عدم تنفيذه لأحكام تتغول في الشئون الداخلية للهيئة من جانب السلطة التنفيذية، مشيراً إلى أن ذلك ساهم في تنامي الشعور بفقدان هيبة القضاء. وأضاف الأمين أنه لم يختلف الأمر كثيراً في عهد المجلس العسكري ومحمد مرسي عن سابقيه، فاستمر النظام في تعارضه مع السلطة القضائية ومحاولاته السيطرة على المؤسسة، فتدخل المجلس العسكري الواضح في قضية التمويل الأجنبي والسماح للمتهمين بها بالسفر خارج البلاد أثناء سير القضية، بالإضافة إلى قيام مرسي بتحدي الهيئة عن طريق إعلانه الدستوري وإقالة النائب العام، وأيضًا تحصين قراراته ضد الأحكام القضائية، كل هذا جعل الأمر جلياً بأن الصراع ما زال مستمرًّا. وأكد رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء أن الأمر اختلف تماماً في عهد منصور والسيسي، فالأول من نفس الهيئة، وبالتالي ينتمي لرجالها، والثاني يعلم مقدار وأهمية اجتذاب رضاء القضاء لجانبه، وهو بذلك يضمن توافق قطاع عريض من رجال الدولة مع سياساته. وأوضح الفقيه الدستوري شوقي السيد أن القضاء دائماً ما يكون محط أنصار الرئيس في بداياته، فالجميع يحاول التقرب إليه؛ لأنه إذا حصل على رضاء القضاء، فإنه يكون قد حصل على مثلث التوافق ما بين الشعب والساسة ورجال القانون، وهو ما فشل فيه الجميع، حتى وصل السيسي للرئاسة واستطاع بحنكته أن يتوصل لهمزة الوصل بين الرئاسة ومؤسسة القضاء؛ ليصبح بذلك ربما أول رئيس مصري يجمع ما بين أضلاع المثلث المصري.