يأخذنا المسافر معه في رحلة عبر الزمن ولكن من خلال ثلاثة أيام فقط من الذاكرة , هي الأقوى معايشة في ذهن “حسن” خالد النبوي , الذي نجهل خلفيات حياته عدى أحداث هذه الأيام الثلاث. ورتب المخرج أحمد ماهر وهو نفسه كاتب السيناريو الأحداث بتسلسل تاريخي, يشبه الفعل ورد الفعل والنتائج, والتي تمثل التيمة الثالثة التي يصيغها الفيلم بشكل معقد من الرمزية الصريحة داخل أحداثه , الفيلم يحمل أكثر من تيمة , التيمة الأولي هي الشكل الأولي للأحداث , حيث يسافر شاب في العشرينات من عمره للعمل في مدينة بورسعيد كعامل في إحدي مكاتب التلغراف , فيقع في قصة حب رومانسية بسبب خطاب ترسله فتاة من أصل أرمني الي شاب معجبة به ويعمل في مكتب والدها, ويحاول عرقلة وصول الخطاب إلى فؤاد ويقوم بالبحث عن نورا داخل السفينة التي كانت تستقلها الي المدينة ثم ينتحل شخصية فؤاد ويقوم بممارسة الحب معها غصباَ وبشكل حيواني علي حد تعبير نورا التي سريعا ما تجد فؤاد الحقيقي أمامها ويقرران الزواج علي السفينة لتشتعل الأحداث كرد فعل انتقامي من حسن علي هذه الزيجة. وينقلنا المخرج إلى أحداث اليوم الثاني وقد بدأ الشيب يغزو شعر حسن لكن قلبه مازال علي حاله ولم يشب, تعلقه المرضي بنورا تنتقل الي صورة ابنتها التي ارسلت في طلبه دون سابق معرفة كي يتعرف معها علي جثة أخيها التؤأم بعد غرقه , وتتساءل نادية عن سر الشبه الذي بينه وبين شقيقها علي ؟ , فينكر حسن هذا الشبه ويحاول الفرار من مواجهة جثة علي , حسن الذي يرى صورة نورا في وجه ابنتها نادية ويجد رائحتها في فستان زفافها الذي كانت ترتديه وهي معه تنتعش لديه الرغبة في تكرار مشاعره مع غرامه الابدي فهو ونورا لم يجتمعا سوي لدقائق لكنه كان يعرفها منذ سنين من خلال خطاباتها اليومية التي كان يستقبلها نيابة عن الحبيب الأصلي, والان تتجسد له نورا من خلال ابنتها التي تطابقها في الشكل فيكرر فعلته معها ثم يزوجها لصديق أخيها غير السوي نفسياً كي لا يلمسها رجل بعده, ولكن الزيجة تنتهي ايضا بحريق يبعث لدى نادية نذيرا بالشؤم من هذه الحياة بأكملها , نتواصل مع هذا الاحساس من خلال هذه اللقطة التي تقوم فيها نادية بتوديع الحياة من خلال نظرة يأس تدفعها لمحاولة الانتحار غرقاً في البحر وهنا ينتهي اليوم الثاني من ذاكرة حسن, لكن من الواضح ان تجربة الانتحار لم تنجح ويعاود شاب في العشرينات من عمره الاتصال بحسن ( عمر الشريف ) وها قد أصبح كهلا أصابه الشيب مظهراً وجوهراً وهجرته الرغبة وتمكن منه إحساس بالوحدة الذي ينكسر فور مقابلته “علي” , فيحاول المحافظة علي هذه العلاقة التي تنكسر سريعاً ليعود وحيداً من جديد بعد موت ابنه الاول علي الذي أنجبه من نورا بعد معاشرتها غصباً قبل زواجها من فؤاد بساعات وهي التي انجبت نادية من زوجها فؤاد . هذه مجرد تيمة ظاهرية وتغليف درامي معقد لتيمات اخري حملها الفيلم , هذا التشوية الذي يلحق بالمجتمع العربي اختصره المخرج في ثلاث أحداث تاريخية متتالية ,ربما كانت التيمة الثانية للفيلم هي الأكثر تعقيداً فعلى الرغم من أن المخرج صرح بها مباشرة من خلال إختياره لثلات سنوات من عمر البطل وهي خريف 1948 وخريف 1973 وخريف 2001 , والدلالات السياسية في الفيلم تفسر نفسها وهي حلقات متصلة للصراع الصهيوني في المنطقة العربية منذ وجودة كأمر واقع علناً عام 1948 ثم تبعات هذا الوجود عام 1973 وأخيراً نتائجه التي حصدها العالم كله عام 2001 بعد تدمير برجي مركز التجارة العالمي , التيمة الثالثة التي كانت ميزان الاحداث والتي ظهرت بشكل متكرر سواء عبر الحوار او عبر الاحداث الختامية للفيلم هي تيمة الخوف وصراع الانسان مع ذاته للتخلص من هذا الخوف الذي أصبح سمة عربية , “حسن” الذي كان يحلم دائماً بالعمل في المطافيء ليقضي علي خوفه من النار , نراها متجسدة في الحفيد الابن الذي يعمل عسكري مطافيء , وفي الابن الاول الذي مات غرقاً في البئر حباً في المغامرة كما كان والده يهوي المغامرة وهو شاب عندما صعد الي اعلي المركب ثم سقط وكان علي وشك الغرق , تيمة اخري تحمل التفاؤل قدمها المخرج في الابناء فرغم ان الاب يحمل جينات الخوف جاء الابناء يحملون جينات القدرة علي التخلص من جينات هذا الخوف . المسافر فيلم مرهق ذهنياً عند مشاهدته ولا تكفي مشاهدته مرة واحدة لكن المتلقي سيشعر بالحاجة او الرغبة في مشاهدته مرة أخرى, عندما يتخلص من صدمة المشاهدة الأولي ويبدأ وعيه في استيعاب تفاصيل دقيقة جدا هي عصب الفكرة والتي يستحيل استكمال فهم الأحداث وتتابعها دون فهمها ودون ان تفك رموز هذه التفاصيل, وقد يقرأ البعض الفيلم بطرق عدة, صحيحة كانت ام خاطئة , فالمخرج قدم لنا حصيلة سينمائية كالدواء المركب غلفها بجمال الصورة وانتقاء حجم اللقطات التي جذبت انتباهي عند المشاهدة الاولي بشكل لم التفت فيه للحوار والذي استعدته مرة اخري عند المشاهدة الثانية للفيلم , فكل لقطة كانت تضيف بعداً جمالياً ودرامياً علي الأحداث وعلي الحوار الذي بدأ ضعيفاً ومملاً بل وتقليدياً في الجزء الأول من الفيلم ثم بدأ يتصاعد تدريجياً حتي لا يمكن فصله عن الصورة قدمت مجموعة لوحات تشكيلية, بدون الحوار , فالصورة التي ظل جمالها طاغ علي الحوار رافقها ارتفاع لغة الاداء المتميز عند خالد النبوي للمرحلة العمرية الاولي والثانية لشخصية حسن , الذي إتهمه البعض بتقليد اداء الفنان عمر الشريف الذي يمثل المرحلة العمرية المتقدمة لشخصية حسن , فخالد النبوي واحد من اذكي الممثلين الذي شاهدتهم في السينما المصرية فهماً لطبيعة تطور الشخصية , في المرحلة العمرية الاولي من شباب حسن بطل الفيلم لم نشهد هذا الاداء المقلد لشخصية عمر الشريف ولكن في المرحلة العمرية الثانية بدا النبوي التمهيد لظهور المرحلة العمرية الثالثة التي جسدها عمر الشريف , والطبيعي هو ان يعطينا المخرج ايحاءا مستمرا ان الشخصية لم تتغير , والتقليد هنا جاء من خلال بعض التفاصيل البسيطة في الاداء الجسدي وليس الاداء التمثيلي الذي يميز ممثلا عن أخر . الاداء في بداية الفيلم عند خالد النبوي وسيرين عبد النور وعند شريف رمزي في نهاية الفيلم لا تكتمل الا من خلال الحوار الذي يتصاعد حد الاشتباك وايهام المشاهد حد الوقوع في الحيرة وصولاً للحظة الصدمة والمفاجأة , وهي معرفتنا بنسب الابناء غير الشرعيين والشرعيين, صاحب الحوار ايضا جمال الصورة وخصوصا في الثلث الاول من الفيلم الذي طغي عليه اللون الاصفر دلالة علي مضي هذا الزمن بل وتهالكه , ثم الجزء الثاني الذي عبر عن تناقض متوازن بين صورة القتامة التي تعبر عن النهاية وبين صورة الاضواء المكثفة والتي تعبر عن بداية جديدة , اما الجزء الاخير فكان اكثر مرونة وواقعية من الاجزاء السابقة , وخرج بنا الي الحياة بشقيها دون استخدام موجه للغة الصورة , بل ترك الصورة حرة تعبر عن نفسها في الشوارع الخالية من الناس وقت أذان المغرب في نهار رمضان , ومظاهر الاحتفال بالصلاة بين الناس اللذين يقيمونها علي الارصفة , والتناقض البارز بين هوية الناس في السبعينات مقارنة بما وصلنا اليه الان , رغم ان المخرج مر سريعاً علي تصوير شكل المجتمع في السبعينات لكنه كثف هذه الصورة التي وصلنا اليها في الالفية , اي انقسام المجتمع الي الديني والاديني وانتشار الظواهر الاجتماعية والتدين الظاهري عند كثيرين . المسافر قصة واخراج : أحمد ماهر بطولة : عمر الشريف , سيرين عبد النور , خالد النبوي , عمرو واكد , شريف رمزي إنتاج : وزارة الثقافة المصرية 2009