رحل الفرنسيون عن مصر بعدما قضوا بها ثلاثة أعوام ( 1798 – 1801 ) مخلفين وراءهم العديد من الجرائم والمذابح والكثير من علامات الاستفهام ، كما تركوا تساؤلا مهما دار فى خلد الكثير من المصريين حول تقاعس السلطان العثمانى عن حماية مصر وعدم قدرة جيشه على صد نابليون ، كما شعروا بصدمة شديدة حين شاهدوا الأمراء المماليك يدحرون أمام " الفرنساوية " خاصة وأن هؤلاء الأمراء كانوا يمثلون لهم النموذج الحى للشجاعة والإقدام ، بعدما حرم على المصرى الانضمام للجيش وحيل بينه وبين حمل السلاح للدفاع عن وطنه وترك الأمر لهؤلاء المماليك الذين كانوا يحكمون كوكلاء للسلطان العثمانى، الذى تضاءلت سطوته شيئا فشيئا ولم يعد له وجود حقيقي إلا فى صورة دعاء باسمه فوق المنابر ووالٍ يرسله من الآستانة لضمان تأمين إرسال النصاب المقرر من المال سنويا إلى خزينة السلطان ، بينما الواقع يؤكد أن المماليك هم حكام مصر وملاك أمرها . تنفس العثمانيون الصعداء بعدما عاونهم الإنجليز فى إجلاء الفرنسيين ، لكن السلطان وحاشيته ورجال بلاطه لم يعوا الدرس جيدا ، إذ ظنوا أن مصر فى سنة 1801 هى نفسها مصر سنة 1798 أى قبل مجيء نابليون إليها ، عاود البلاط العثماني انتهاج نفس الدرب وتخير لمصر الوالى تلو الآخر دون أن ينتبه لوجود حركة سياسية قوية بزغت وقوى عودها أثناء مقاومة المصريين للمحتل الفرنسي ،ودون الالتفات لأن الشخصية المصرية قد تغيرت بعدما أسقطت حاجز الخوف وحملت السلاح و قاومت وألحقت الخسائر بجيش أوروبى منظم ، وهى تحمل العصى والنبابيت والأسلحة البدائية التى لم تكن تمتلك سواها ،ولأن عقلية الاستبداد لا تعى الدروس جيدا فلقد اقترف الولاة الخطأ تلو الآخر حتى احتقنت نفوس أهل مصر وقرروا العودة للمقاومة مرة أخرى ، لكنهم هذه المرة كانوا أمام اختبار شديد الصعوبة ، كيف لا وهم يتحدون مندوب السلطان العثماني الذى ساعدته ظروف العالم الاسلامى والعربى المتردية فى أن يتشح بثوب الخلافة الذى يضمن له مساحة كبيرة من الولاء ، كما يقدم لكرسى حكمه قدرا مهولا من الحصانة ، بينما كان واقع الحال يثبت دوما أن حكام أل عثمان كانوا أبعد ما يكون عن فلسفة الخلافة ونهجها . فى عام 1805 تصاعد الغضب الشعبى ضد أحمد خورشيد باشا الذى كان واليا عنيدا متكبرا لايحب المصريين ولا يقيم لهم وزنا ، وأثقل كاهلهم بفرض الضرائب وإلحاق الأذى بعلمائهم وكبرائهم حتى امتلأت النفوس منه غضبا وكرها ، ولم يكن هذا الوالى يمتلك الوعى الكافى لقراءة المشهد المصرى – خاصة وأن أخلاطا من الجنود كانت تملأ البلاد ، وكانت تنشب الكثير من الخلافات بين هذه الفصائل التى لم تكن تظلها قيادة واحدة وكان كل سعيها ينصب على رواتب الجنود وعلوفات خيولهم ، ولهذا كانوا يهاجمون القرى ويسلبون أهلها أقواتهم بل ويخطفون نساءهم وأبناءهم – ولما كانت قيادة الرأى العام المصرى تخضع لكبار العلماء و التجار الذين يمثلون الطليعة وقتئذ ، فلقد تقاطرت الجماهير على الجامع الأزهر وطالبوا المشايخ والعلماء بتحمل مسئوليتهم ، وكعادة الطليعة المصرية توجه وفد من العلماء لبحث الأمر مع الوالى ، لكن خورشيد العنيد الجهول أبى إلا أن يستمع لشيطانه وأغلظ للعلماء القول وهددهم بأنه مندوب السلطان وصاحب الشرعية وأنه ولى الأمر . وإذا كانت الطليعة قد ركنت للمفاوضات والمبادرات مع الوالى فإن القاعدة الشعبية وقيادتها المتمثلة فى البطل الشعبى " حجاج الخضرى " شيخ طائفة الخضرية ، و" ابن شمعة " شيخ الجزارين ، وغيرهما الكثيرين ، قد اختارت الحل الأكثر واقعية وهو العمل الميدانى ضد الوالى الظالم وانفجرت ثورة شعبية هائلة توحدت تحت هدف واحد ورغبة محددة وهى عزل خورشيد وتلقين السلطان درسا فى كيفية تحدى رغبة المصريين ، ولما رأت المشايخ أن الأمر قد بلغ هذا الحد من التعقيد انحازت للرغبة الشعبية و قرر العلماء أن يواجهوا الوالى برغبة الشعب فى خلعه ، لكنه أبى وأعلن أنه الحاكم الشرعى وقال لهم : لقد ولانى السلطان ولن يعزلنى الفلاحين . اجتمع العلماء وكبار التجار وشيوخ الطوائف والحرف فى دار القاضى الذى كان تركيا هو الآخر – تقول بعض الروايات أن عدد من وقفوا أمام دار القاضى بلغ تسعين ألفا من المصريين – وأصدروا وثيقة شرعية ستظل تخلد عظمة المصرى وإصراره ، تلك الوثيقة التى أقرت بحق المصريين فى عزل الوالى الظالم ، وأقر القاضى بأن الحاكم الذى يسير بالظلم والعناد فى الناس لا تجوز طاعته ويجب خلعه والخروج عليه ، وتم إرسال هذه الوثيقة إلى الآستانة لم يرضخ خورشيد للأمر وتحصن فى القلعة وقرر المقاومة ظنا منه أنه يستطيع تحدى الإرادة الشعبية للمصريين ، وهنا تجلت شجاعة وعبقرية " حجاج الخضرى " البطل الشعبى الذى يعد هو القائد الميدانى لثورة المصريين فى 1805 ، فحاصر حجاج ورجاله القلعة ومنعوا عنها أى إمداد كى يرهقوا خورشيد ويجبروه على التسليم للارادة الشعبية ، وسجل حجاج الخضرى بطولات رائعة دونها المؤرخ المصرى " عبد الرحمن الجبرتى " فى كتابه القيم " عجائب الآثار فى التراجم والأخبار " وهو المرجع الأهم عن مصر فى هذه المرحلة . كان لزاما على الطليعة ( كبار العلماء والمشايخ والتجار ) أن تتخير فيما بينها من يتولى حكم مصر بعدما يعزلون خورشيد ، و كان حجاج الخضرى ومعه بقية قادة الثوار يتطلعون لأن يحكم مصر أحد العلماء وأن تتخلص البلاد من وباء الترك هذا ، ولما كانت هناك العديد من المشاحنات والضغائن بين مشايخ مصر وعلمائها ، وأيضا حرصا على استرضاء السلطان / ولى الأمر بعدما تحدوا إرادته وخرجوا على من ولاه عليهم ، فلقد قرروا تخير شخصا تركيا – من جنس السلطان – ولم يجدوا إلا الضابط الألبانى محمد على ، الذى كان دائم التقرب للمصريين وكان يعرب دوما عن رفضه لسياسات الولاة الأتراك وبلغت درجة صلته بعمر مكرم أنه كان يناديه ب : أبى ؟! وكان الشيخ مكرم يناديه ب : ابننا محمد على ، ولم يكن يدور بخلد العلماء والمشايخ حين أقدموا على ذلك أن الرجل الذى اختاروه كان ضالعا فى جل الأحداث التى شهدتها مصر منذ خروج الفرنسيين ، فلقد كان محمد على يخطط لحكم مصر منذ وطأت قدماه أرضها ولهذا سعى لإفشال عمل كل والٍ جاء إليها ولم يتردد فى التعاون مع الأمراء المماليك وهم الأعداء الأذليين للاتراك وله شخصيا – ولقد فتك بهم بعد ذلك – ولأن للطليعة دوما منزلتها لدى القاعدة الشعبية فلقد نزل حجاج ورفاقه على رأى العلماء ووافقوا على اختيارهم لكنهم اشترطوا على محمد على أن يسير فى الناس بالعدل وألا يفرض عليهم ضرائب ترهقهم وألا يتخذ قرارات بهذا الشأن إلا بعد العودة للعلماء ، وإلا فكما أجلسوه على كرسى مصر فسوف يخلعونه من فوقه . أجبر السلطان على الرضوخ لرغبات الشعب وأقر خلع خورشيد وقام بتولية من ارتضاه أهل مصر – كان اختيار الطليعة فى الحقيقة – واليا عليهم ، وصعد محمد على إلى أريكة الحكم بعدما قبل بشروط المصريين وبعدما أمسك بيد عمر مكرم وقبلها فى امتنان شديد ، لكنه كان يخطط وقتئذ فى الطريقة التى يقضى بها على هذه القامات التى قادت الثورة وأجلسته على كرسى القلعة . وتمكن المغامر الذى صار واليا على مصر من أن ينفذ إلى الطليعة وأن يستغل خلافاتها ومشاحناتها واستطاع أن يقضى على قيادتها ، لكن الخضرى –قائد الثورة الفعلى- كان يمثل أمامه عائقا كبيرا وكان لزاما عليه أن يتخلص منه ، وألقى القبض عليه وزج به فى السجن ؟! لكنه إمعانا فى القضاء على روح الثورة قرر أن يستريح منه للأبد ، واستيقظ الناس صباحا ليجدوا جثة الخضرى معلقة تتدلى فوق باب الحارة . وبموت حجاج الخضرى ضمن محمد على ألا يخرج عليه صوت وألا يعارضه إنسان ، وعلى الرغم من الدور العظيم الذى لعبه فى تأسيس البنية الأولى لمصر الحديثة لكنه أيضا كان مثالا للحاكم المستبد الدموى الذى لم يتورع عن فعل أى شيء أو اقتراف أية جريمة كى يضمن تحقيق هدفه ، ولأنه كان المنتصر والمتحكم فى مقاليد الأمور فلقد كان حريصا على أن يمحو روح ثورة 1805 كى يضمن استمراره فوق أريكة الحكم ، ولم يكن ذلك بالأمر الصعب خاصة وأن الثورة تحتاج دائما لمن يحميها ويدافع عنها ولا يتركها لمن يتاجر بها تحت أى زعم ، سواء كان زعما دينيا مزعوما كما فعله السلاطين / الخلفاء، أو كان اختطافا بفعل عوامل عدة متشابكة ومعقدة كما حدث مع ثورة يناير العظيمة فى 2011، وليتنا نمتلك الوعى الكافى للمحافظة على 30 يونية ومكتسباتها وألا نترك لأى مغامر الفرصة لسرقتها والمتاجرة بها أو الاندساس وسط من فجروها لإفشال أمرهم ، ومصر لن تنسى ثوراتها أبدا مهما فعل الحكام والولاة كما أننا لن تنسى ثوارها العظماء، رحم الله حجاج الخضرى وسامح من تعمد تجاهله فى كتب التاريخ .