فى بداية هذا الشهر طارت السفيرة الأمريكيهبالقاهره إلى واشنطن على نحو مفاجئ بالنسبة للمسئولين المصريين، ولا أدرى من صاحب فكرة ترويج إشاعة فى ثوب طرفة سخيفه حول هذا السفر مفادها أن السفيرة كانت تحضر أحد المناسبات وفيها أفرطت فى الشراب مما جعلها تطلق أحاديث غير لائقه وتفصح عن العديد من الأسرار مما تطلب إستدعائها إلى واشنطن لتوبيخها على ما فعلته وتنبيهها بالحرص على عدم تكرار ذلك مرة أخرى !! أعتذر على هذه البداية ولكن توجد أهمية ما لذكر هذا السخف الذى انتشر بصورة كاسحة على مدار أيام على جميع المواقع الإليكترونية والإخبارية بتنويعات مختلفة، منها من ذكره بإقتضاب لتشككه فى صحة الخبر ورغبة فى عدم التورط فى ذكر التفاصيل ومنهم من إستفاض فى الأمر وذكر بعض مما تفوهت به السفيرة تحت وطأه إنفلات لسانها. تأتى أهمية ذكر هذا الإختلاق لبيان مدى البون الشاسع بين ما يروج ويتداول وما بين ما يرتب ويدار فقد كان غرابة التسريب حول سبب سفر شخصية مثيرة للجدل مثل السفيرة الأمريكية إلى واشنطن حافزاً لتتبع ما دار هناك فقد بدا لى الأمر وكأن تسريب سبب السفر الوهمى مقصوداً مثلاً من السفارة الأمريكية للتعمية عما يحدث هناك، فمن الذى تسعفه قريحته لتخريج طرفة من هذا النوع على السفيرة التى تحظى بخبرة مهنية فائقة يكفى للتدليل عليها تاريخها الوظيفى الذى يحوي محطتين فارقتين للغاية وهما منصبها كسفيرة لأمريكا فى باكستان فى فترة من أعقد فترات الحياة السياسية هناك، وجاء على لسان أحد كبار الدبلوماسيين الباكستانيين تلخيصاً لمدى نجاحها فى هذا المنصب وهو يهمس بتوصيف لها إلى أحد قيادات البعثة المصرية فى الأممالمتحدة بأن إحذروا هذه الشخصية الناجحة فهى كانت تدير الساحة السياسية فى باكستان بالكامل مع كل مافيها من تعقيدات، وأكد هذه المقولة الواقع العملى الأمريكى بتعيينها مباشرة بعد النجاح الباكستانى سفيرة فى القاهره تزامناً مع الثوره وإنقلاب الأوضاع وبدء تشابك المشهد المصرى الذى كان يحتاج لمن يعمل بكفاءة من اللحظة الأولى ولا يسمح للأحداث بأن تفرض عليه تلعثم من أى نوع، وأظن من الناحية المهنية ووفق المصالح الأمريكية البحتة وضعت السفيرة نفسها فى قلب صناعة الحدث فى سرعة وتمكن تناسب جدية العمل الدبلوماسى الأمريكى فى نقاط مفصلية من العالم تظل القاهرة حتى اليوم تحتل إحداها حتى الآن. ما سبق لمحة سريعة عن وزن السفيرة الأمريكية وقدرها المهني وخبرتها ونجاحاتها المحققة على الأرض قبل أن نطير معها إلى واشنطن لحضور مجموعة من الإجتماعات العاجلة تختص جميعاً بالشأن المصرى وفى بعض هوامشها أوضاع المعادلة الإقليمية فى المنطقة المسماة عندهم بالشرق الأوسط .. وجهت السفيرة فى البداية بطرحين على مائدة صناعة القرار الأمريكى أولهم خاص بالإدارة السياسية والدبلوماسية الخارجية الأمريكية وملخصه يدور حول تقييم وضع نظام الحكم الإخوانى الذى تراه هذه الإدارة متعثراً أو متباطئاً فى الإمساك بزمام الأمور تحت ضغط مجموعة من المشكلات السياسية الداخلية أهمها التعثر الإقتصادى يليه مجموعه من العقبات.. منها فشله فى التعامل الصحى مع التشكيلات المعارضة وخلق مناخ إيجابى يسمح بعملية سياسية متوازنة بعيدا عن فوضى الشارع والصخب العشوائى ومنها أيضاً تنامى الإحتقان والتململ المسيحي من تجربة حكم الإسلام السياسى الذى زاد من مدى إبعادهم وتهميشهم رغم ما قطعه الإخوان المسلمين على أنفسهم صراحة بمراعاة إدارة هذا الملف بطريقة متقدمة وأفضل مما كان يدار فى عصر النظام السابق، وتأتى ثالث هذه العقبات متمثلة فى دخول نظام الحكم منطقة الصراعات مع كتل وكيانات لبعضها أوزان ثقيله مثل المؤسسة القضائية، وللبعض الآخر مساحة نفوذ جماهيرى كالإعلام ولآخرهم تعقيدات عريضة يصعب تجاوزها وهى الجيش .. ولكل ماسبق تحول الأوضاع دون وصوله لنظام مستقر يبدأ فى إنتاج المأمول منه داخل المنظومة الإقليمية المحددة سلفاً.. ويستكمل جانب الإدارة السياسية طرحه بإقرار رغبته الصريحة فى إستمرار دعمه لنظام حكم الإسلام السياسى متمثلاً فى الإخوان المسلمين ويطلب من السفيرة وضع مجموعة من المقترحات التى يمكن بها الخروج أو تحسين الوضع بصورة تجعل التقدم وتجاوز أكبر قدر من مشكلات الحكم ممكناً. ويأتى الطرح الثانى المتمثل فى قيادة الجيش الأمريكى وإدارة هذا الجيش لها كلمتها ومتطلباتها فى علاقات الولاياتالمتحدةالأمريكية الخارجية ورسمها للتحركات وخلق التوازنات التى تتماس مع عملها الخارجى فى المناطق التى تتواجد بها بفاعلية أدوار تمارس على الأرض وتصب فى محصلة النفوذ والمصالح الأمريكية، ويمثل الشرق الأوسط أحد أهم هذه المسارح على الإطلاق وتتواجد فيه ممثلة فى قيادتها المركزية به وهى الأكبر خارج الأراضى الأمريكية، فضلاً عن إدارة العديد من العمليات المشتركة مع "قوات الناتو" على هذا المسرح الهام .. وجاء ملخص طرح هذا الجانب محذراً من مجموعة من النقاط أولها كبح جماح النظام الحاكم فى مصر من التحرش الواضح بالجيش المصرى الذى نشأ على خلفية فشله السياسى مما دفع الرأى العام الشعبى بإعادة وضع الجيش كحل بديل لنظام حكم إسلامى إستلم مهمة بدا غير مؤهل لإدارتها، ولمعارضة سياسية مدنيه لم تلبى طموحات التغيير عن طريق آليات السياسة ووصول هذه الصورة لنظام الحكم بوضوح ألهبت أعصابه وصار حديث الإنقلاب العسكرى المتداول بالشارع حافزاً لهم للإسراع بحل قضية سيطرتهم على الجيش وممارسة كافة وسائل الحرب المكتومة من تشويه وتوريط وتحريض لمحاولة النيل منه بأسرع وقت ممكن، ويضع الجيش الأمريكى بوضوح خط أحمر لهذه المحاولة فى الوقت الراهن فهناك من تعقيدات وتشابكات الوضع الإقليمى مالا يسمح نهائياً بإصابة الجيش المصرى بأى نوع من الهزات، خصوصاً وأن قيادته ومجموعة الإدارة فيه يكرسون مع أمريكا علاقات ناجحة وخاصة جداً فى أمور قد تحتفظ لدور هذا الجيش فى المنطقة العربية بأهمية تفوق أهمية النظام السياسى بأكمله وهذا فى المنظور الزمنى القريب على أقل تقدير، وتفرغ هذا الجيش لمهنيته وعزوفه الحقيقى عن ممارسة لعبة السياسة لدى القيادة المركزية بالشرق الأوسط تأكيدات عديدة على جديتها. وأضاف هذا الجانب فى طرحه مجموعة من الإضافات غاية فى الأهمية تمثلت فى أن القيادات العسكرية لقوات الناتو متعددة الجنسيات والممثلة فيها أوروبا بشكل بارز قد حملت له نفس هذه المخاوف من أن تكون الإدارة الأمريكية قد أعطت الضوء الأخضر لنظام الحكم فى القاهرة للإجهاز على الجيش المصرى أو إصابته بعجز ما فى إطار لعبة السياسة الدائرة هناك، والناتو بقياداته وقواته يعرفون بمنتهى الدقة توازنات القوى العسكرية فى المنطقه وما يمكن أن يكون تحت جاهزية الإحتياج فى خطط الناتو قصيرة المدى.. وتماثل هذا التحفظ مع نفس المضمون القادم لقيادة الجيش الأمريكى من عواصم لا تقل أهمية للولايات المتحدةالأمريكية مثل الرياض وما تمثله من عواصم أخرى فى الجزيرة العربية لا تبدى إرتياحاً لما تبديه واشنطن من دعماً سياسياً مفتوحاً لنظام الحكم فى القاهرة وتصرح بإنزعاج حقيقى فى حالة خروج الجيش المصرى من معادلات المنطقة بشكل عام. إنتهى ملخص الخطوط العريضة لكلا الجانبين بطرحهما، ووضع الأمر على المائدة لمشاركة جميع أطراف هذه الإجتماعات فى وضع تصورات لتفكيك التشابك والخروج بتحديد دقيق لمسارات واقعية ناجزة غير خاضعة لمنطق التجريب تحقق أكبر قدر من المصالح وتتجنب أية خسائر معطلة، وذلك من خلال أراء طازجة متلامسة مع الواقع المصرى وهنا دور السفيرة المحدد خلال تلك الحلقة النقاشية الهامة وفتحت الخطوط الساخنة مع السفارة بالقاهرة لتزويد المجتمعين بكل ما هو مطلوب ودقيق من معلومات وتصورات وبدائل عكف على تنفيذها أكبر بعثة دبلوماسية لأمريكا على مستوى العالم القابعة فى حى جاردن سيتى بالقاهرة. عادت السفيرة الأمريكية إلى القاهرة بعد إنتهاء العمل فى واشنطن وفرضت سرية تامة على ما تم التوصل إليه من خطط تحرك وقدر التغيرات المطلوبة، ولكن لأن الموضوع برمته كان يدور تحت ضغط العامل الزمنى والتشابك الأقليمى الذى يحتاج لإنفراجات سريعة، ظهرت على الفور مجموعه من الخطوات التى تكشف بشكل ما صورة ما تم إعتماده والتوافق حوله.. صدر عن السفيرة الأمريكية فور وصولها تصريح معلن يفيد بأن النظام السياسى المنتخب قائم وإسقاطه يتم عن طريق الصناديق والآليات الديموقراطية وهو بالطبع حديث موجه أولاً للإخوان المتحرقين شوقاً لمعرفة ما تقرر بشأنهم فى واشنطن، وهو فى إطار تبريد لأعصابهم الملتهبة وتجهيزهم لفتح ملفات الدور المطلوب منهم فى الفترة المقبلة، وذهب التصريح أيضاً للمعارضة المشاركة فى العملية السياسية لتوضح الرهان الأمريكى وإتجاهاته ليضبطوا هم الآخرين بوصلتهم تجاه الصناديق، ودفع صندوق النقد الدولى للنزول إلى مصر مرة أخرى لإنهاء مسألة القرض المتعثر وتخفيف أو تحوير الإشتراطات بشكل يرفع قليلاً من حدة الضغوطات الممارسة على الحكومة، وفى نفس السياق الإقتصادى دفعت أمريكا النظام الليبى إلى تمويل قرض لمصر فى حدود نصف مليار دولار بالإضافة لبعض الودائع المصرفية لإنعاش القطاع المصرفى المصرى والخروج به من تدهور العملة الذى قد يطيح بالمنظومة الإقتصادية برمتها إذا تجاوز التراجع الحدود التى وصل إليها ويحتاج الأمر لإستكماله بتصدير صفقات متوالية من الوقود تساعد به ليبيا النظام فى مصر ليعبر فترة الصيف، وتخفف أيضاً من ضغط الإحتياج اليومى للعملة الصعبة لتمويل صفقات إستيراده من الخارج، وقد قيمت هذه الإجراءات من الإقتصاديين بتعبير مختصر ودال بأن هذا يؤدى إلى فقط تعويم السفينة الغرقى دون الدفع نحو إبحارها والمطلوب من الخطط المحلية أن تتكفل بإبحارها دون الإعتماد على المزيد من القروض حتى لا نعود لبداية الدائرة مرة أخرى. تعمدت واشنطن أن ينقضى الشهر وهى تماطل فى تحديد موعد لزيارة الرئيس المصرى إليها وحددت فى المقابل موعدين لإستقبال ملك الأردن وأمير قطر فى مباحثات إقليمية هامة، وكانت رسالة التباعد مع النظام المصرى فى هذا الأمر واضحة للعيان وخطت فى هذا خطوة قد تبدو أبعد بمواربتها الباب مع التيار السلفي الذى يوشك على القيام بزيارة عاجله إلى واشنطن وللمفارقة قبل الرئيس المصرى فى رسالة أوضح تفصيلاً بأن خططها الإستراتيجية لدعم حكم إسلامى فى مصر لا يلزم بالضرورة أن يمثله الإخوان المسلمين فهناك بدائله الجاهزة والتى ترتب أوضاعها على نار هادئة فى إنتظار قطف ثمار الفشل الإخوانى وهو إستبدال تراه إدارة الدبلوماسية الأمريكيه قد يحظى بقبول داخلى و إقليمى فى إطار تصحيح المعادلات. ويبقى الجانب العسكرى وهو الأعلى سرية فى تحركاته وترتيباته وبدافع ضغط عامل الوقت عليه هو الأخر قام وزير الدفاع الأمريكى بزيارة مهمة للمنطقة أريد لها أن تتم بعيدة تماماً عن التغطية الإعلامية وكل ما صدر من تصريحات فى جميع محطاتها المهمة أنها زيارة مهنية بحتة مع القيادات العسكرية المعنية بالوضع فى سوريا خاصة مع تدفق التقارير الأخيرة للوضع تحمل تقييماً مزعجاً بأن المشكلة السورية مرشحة للتمدد الزمنى بأكثر مما هو مخطط لها بكثير، والنظام السورى يكتسب عافية تدريجية بتراجع دول مواجهته خطوات للوراء و تحديداً السعودية وتركيا فى تشككهما الواضح من جدوى وإيجابية المسار الذى دخلا فيه، جهزت القيادة الأمريكية فى المنطقة طائرة حربية طار الوزير الأمريكى على متنها فى حراسة الطائرات الحربية الإسرائيلية لتفقد الوضع على الطبيعة فوق هضبة الجولان والمناطق المحيطة بها وقدمت العسكرية الإسرائيلية تفصيل للوضع أمام القائد الأمريكى إصطحبه معه إلى لقاء قائد الجيش المصرى الذى بدا لقاءاً مهنياً فى ظاهره، و لكن مجرد طرح أمر ترتيبات الأوضاع العسكرية فى سوريا أمام قائد الجيش المصرى بتفصيلاتها الأمريكية والإسرائيلية وإشراكه بوضوح فى تقييمها والتباحث بشأنها يضع الجيش شريكاً فى أهم الملفات وأعلاها حساسية وسرية فى التحركات الأمريكية بالمنطقة ويجيب للأطراف المعنية بالأمر عن وضع الجيش فى معادلة الإقليم وما قد يدخل فيه بقوة ما فى المرحلة القادمة.