بعيدا عن التفصيلات المتعلقة بالساحة السياسية التى ترسلها قاماتنا النخبوية عبر صحفها وفضائياتها ضبابا كثيفا يحجب عن الأذهان تكّون أي رؤية كلية تنتظم فيها هذه التفصيلات؛ فكل تفصيلة لديهم حدث قائم بذاته تطرحه تلك القامات القزمية على طاولة البحث لتتناول جسده الهزيل بالتشريح، حتى إذا ما قضت حاجتها منه، أزاحته عن الطاولة، وانكبت على آخر تحدث به ما أحدثته بسابقه، وهكذا دواليك، لتخلف وراءها قارئ أو مشاهد ذاهل مشوش الذهن، كيف لا؟! وهو لا يبصر أمامه سوى مشهد عبثي يتكرر يوميا كأن الذي سطره هو صمويل بيكت أو يوجين يونسكو!. أقول لنسعى بعيدا عن هذه التفصيلات وتلك النمائم البائسة، نستهدف لسعينا طرحا كليا نقيمه، فنسكن إليه في طمأنينة، لا تحولنا عنه صيحات أو نداءات يطلقها هذا أو ذاك. وهو طرح حاضر غائب، حاضر بمسمياته ليغيبه فراغه من المعنى الحقيقي لتلك المسميات، ويتمثل في الثالوث الآتي: العدالة الاجتماعية، والنهضة، والاستقلال. لقد بلغت الأوضاع الاجتماعية في ظل نظام مبارك مبلغا من السوء عظيما، فدفنت تحت ركامها فئات واسعة من المجتمع (42% من المصريين تحت خط الفقر، وبلغت نسبة البطالة بحسب آخر الإحصائيات إلى 12.6%، إضافة إلى 12 مليون مصري يسكنون العشوائيات، أما الموتى الأحياء "سكان المقابر" فقد بلغ عددهم مليون ونصف المليون زومبي!، وليتدنى مستوى الخدمات التي تقدم إلى هؤلاء جميعا بدنو حالهم تلك!)، ليستوى علي هذا الركام طبقة رفيعة، أقامت امبراطوريات اقتصادية أكبر مساهم بها هو الفساد، وبذا تجاور على أرض الوطن الواحد أمتين ، لكل منهما حياة لا تعي الأمة الأخرى من مفرداتها شيئا!. وواهم أو مضلل خبيث من يدعي أن أوضاعا كهذه يمكن أن يقوض أركانها ضريبة تصاعدية أو إجراءات تحسينية لسياسة لا تخدم بشكل مباشر تلك الجموع، كذلك فهذه الجموع لن تنتظم في خدمة أي مشروع للنهضة، بل لن تعر أدنى انتباه لأحاديثه المبذولة ليل نهار وهي قائمة تصارع فقط كي تبقى على قيد الحياة!، ولتقعد بهم تلك الحال أيضا عن النهوض أمام أية أخطار داخلية أو خارجية قد تطل بوجهها القبيح خلال الفترة القادمة في ظل أوضاع إقليمية ودولية شديدة الاضطراب. الخطوة الأولى إذن على طريق إعادة بناء الدولة هو رد الآدمية على تلك الفئات، وعبثا أن نتلمس سبيلا لذلك بعيدا عن اعتماد سياسات جذرية تضمن عدالة التوزيع، وترد على الشعب الثروات الطائلة التي انتهبتها امبراطوريات الفساد، وتتضمن كذلك تكثيف دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والخدمي والتعليمي، لكن هذه السياسات ستثير بلا شك حنق الإمبريالية الغربية ووكيليها المعتمدين البنك وصندوق النقد الدوليين، لتعمل ووكيليها هذين على بذر العراقيل أمام تلك السياسات إن اتخذت موضعا للتطبيق. نعم لن تكون هناك نهضة دون العمل على استخلاص طاقات وجهود تلك الجماهير من براثن هذه الحياة المزرية وتوجيهها لإنفاذ حلم النهضة إلى أرض الواقع، ولن يكون بمقدورنا أن نتخذ سبيلا لذلك بغير إرساء القواعد للسياسات المشار إليها آنفا، وهو ما يستتبع كما ذكرنا أعلاه صداما مع الإمبريالية الغربية التي تدرك أن مشروعا كهذا من شأنه أن ينفخ الروح في استقلال القرار الوطني، وهي أبدا لن ترضى بعثه من بعد موات. جل ما يمكن أن تسمح به القوى الإمبريالية من تقدم لمجتمعاتنا سيكون عبر احتوائها داخل منظومة السوق الرأسمالية الكونية القائمة لتفرض عليها رؤيتها ليس فقط في الجانب الاقتصادي، بل في شتى مجالات الحياة (فرأسمالية ما بعد الحداثة، رأسمالية الاستهلاك ليست نمطا من السيطرة الاقتصادية فحسب بل هي نسق من السيطرة متكامل؛ اقتصادي، واجتماعي، وثقافي... )، وبذا تظل السيادة دوما لدول المركز، وتصبح دولنا ولعلها كذلك مصرفا لتراكم الفائض من رؤوس أموال هذه الدول، وكذلك للآثار السلبية التي تتركها صناعاتها الثقيلة على البيئة!. وبالتوازي مع تجديد شباب هذه الفئات بأكسير العدالة الاجتماعية لتندفع تلكم في عزيمة وثقة وبخطوات خفيفة لا تكاد تلامس الزمان فتطويه طيا لتبلغ نهاية مرامها (النهضة) يكون الاستقلال الذي هو القنطرة التي تعبر بنا ولطالما كان كذلك إلى قدرنا الجغرافي والتاريخي المتمثل في قيادة دولة الوحدة العربية، ولتقوي هذه الوحدة في ذات الوقت الاستقلال المنشود. وإذا ما ألقينا ببصرنا من علياء الأفكار المجردة إلى الواقع وأصخنا السمع إليه أنبئنا بثقة تامة وبلا أدنى تحرج أن السياسة الإخوانية قد أشاحت بوجهها عن طرحنا هذا، (والذي نعده ترجمة لمكنون الضمير الشعبي)، وفي ذات الوقت ما فتأت النخب (ليبرالية ويسارية) باقية على عزوفها عن العمل الجاد (ولعل من أهم أسباب هذا العزوف أنها وعلى مدار عقود طويلة بقت متبطلة عنه فلما آن آوانه كأن لسان حالها يردد قول الشاعر: "من شب على حب الرضاع شاب عليه"، فلم يفطم أبدا!)، لتتقافز كالقرود على جبلاية الإعلام، ولتغذي اعتقادنا يوما بعد يوم أن إيمانها لا يعدو ذواتها، لكن إن كانت هي تبصر مهمتها قاصرة على "القردية" تلك، فليس لزاما علينا أن نتابعها في ذلك. لننشغل إذن بما هو حتما علينا أن نتمثله في أذهاننا دوما كالطرح الذي عرضناه أعلاه فنتفانى في توطينه بذواتنا فكرا، وبمجتمعنا واقعا. لتغتسل به عقولنا ووجداننا من أدران الواقع والواقعية، ونستقبل القادم بعد ذلك بروح مستبشرة وحركة دؤوبة صادقة، ولنضرب صفحا عن الماضي، بكل سياسته وشخوصه، فالأعالي التي نتطلع إليها لا قبل لشخوص الماضي (نخبته) بحكم أعمارهم وثقل تجاربهم الفاشلة والتصاقهم بالواقع وفساد طويتهم على أن يتبعونا إليها عوضا عن أن يقودونا نحوها، وذلك فصل القول وختامه. Comment *