ظل صعيد مصر محتفظًا بموروثاته الثقافية طوال مئات السنين، خاصة فيما يخص طريقة الاحتفالات والأفراح، واستخدام العديد من الآلات الموسيقية ، والتي يُجيدونها عن غيرهم، وقد اندثر من تلك الآلات البعض، إلا أن البعض الآخر لا يزال باقيًا، ويلعب دورًا كبيرًا في حياة أبناء الجنوب، خاصة ممن يقطنون القرى والنواحي التي يغلب عليها الطابع البدوي. ورغم التقدم الكبير الذي شهدته الآلات الموسيقية، بل واعتماد الغالبية العظمى من المواطنين على الموسيقي المحملة عبر الأجهزة المختلفة، نجد أن استخدام عدد من الآلات القديمة يحظى بمكانة كبيرة بين قطاع عريض من المواطنين، وتقام على أنغامها الأفراح والاحتفالات والموالد، نظرًا لما تُصدره من أصواتًا مختلفة عن الآلات الحديثة، وتتماشى مع الطبيعة البسيطة للغالبية العظمى من أبناء الصعيد. الدربكة وتُعد الطبلة البلدي، أو كما تُعرف بين العديد من المواطنين باسم "الدربكة"، أحد أهم الآلات الموسيقية التي يقام على أصواتها متفردة الكثير من الليالي، وأبرز ما يميز تلك الطبلة عن غيرها من الطبول الحديثة هو طبقتها العلوية المصنوعة من الجلد المقوي، وتكوينها المصنوع من الفخار المحروق، ما يكسبها صوتًا مميزًا عن الطبول الحديثة. صناعة الدربكة لم تختفِ بين قرى الصعيد، وتمثل مصدر رزق كبير للعديد من الأسر، خاصة في محافظاتالمنيا، والعديد من قرى سوهاج الشهيرة بالمواويل. وتتراوح أسعار تلك الطبول حاليًّا بين 10 و70 جنيهًا للكبيرة، والتي تستخدم في الموالد والأفراح الكبيرة. الربابة وتعد الربابة هي الأوفر حظًّا والأكثر شهرة بين آلات العزف القديمة، إذ تنتشر بشكل كبير في محافظات الصعيد، ويحملها الكبار والصغار في القرى والمدن، ويزيد تواجدها بالأسواق مع مواسم أعياد الربيع، وعيدي الفطر والأضحى، بالإضافة إلى تصنيعها بكميات كبيرة لبيعها في موالد محافظات بحري، خاصة مولد الحسين، والسيدة زينب، والمرسي أبو العباس، وسيدي أحمد الفولي بالمنيا، وعبد الرحيم القناوي بمحافظة قنا. واستخدمت الربابة بقوة خلال فترة الأربعينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، في جلسات إلقاء المواويل والقصص الشعبية والبطولية بين أبناء القرى وبعضهم بعضًا، وكانت تقام لها مسابقات شهيرة بين الأفراد؛ للوصول الى أفضل عازف، ومع مرور الوقت انحصر استخدامها في عدد محدود من القرى. لا يتكلف تصنيع تلك الآلة مبالغ باهظة، فهي تعتمد على جريد النخل، والذي يقطع لأعواد بها ثقوب، ويربط بطرفيها نوع من الخيوط القوية، لتبدأ عملية العزف بقطعة خشبية أخرى، تُنشد مقطوعات موسيقية يعشقها الكثيرين، وتباع بأثمان زهيدة. الناي "العازف الحزين".. هكذا يُطلق على الناي بين البسطاء من الناس، فهو معروف منذ آلاف السنين، وظهر على بعض النقوش الفرعونية كأحد أهم الآلات الموسيقية في العزف، إلى أن غزا الموسيقى الأوروبية حتى الآن. ورغم القيمة الفنية الكبيرة للناي، وما مثله من تطوير للأنغام الموسيقية، فهو يختلف عن المزمار بشكل كبير، إلا أن من يجيدون استخدامه حاليًّا فئات قليلة من المتخصصين في قصور الثقافة والفرق الموسيقية، وبدأ يندثر عازفوه من العامة بشكل كبير، باستثناء بعض الحالات الفردية التي تحيي ليالي الإنشاد ببعض القرى، ويقل بيعه لدى المحلات المختلفة، لتمثل الربابة الآلة الأكثر تأثيرًا بين شقيقاتها من الآلات الشعبية الأخرى. وقال محمد عبده، أحد أفراد فرق الفن بقصور ثقافة المنيا سابقًا، إن الآلات الموسيقية القديمة كانت تجسد ثقافة وهوية لأبناء الصعيد، خاصة في القرن الماضي، وكانت تلعب دورًا كبيرًا في انعكاس عاداتهم وتقاليدهم، في المناسبات المختلفة، ناهيك عن انتعاش الحالة الاقتصادية لمن كانوا يعملون في صناعتها وبيعها للمواطنين في المحافظات المختلفة. وأضاف عبده أن فن الربابة والناي من الفنون شديدة الأهمية، والتي يجب الاهتمام بها وإحياؤها بالشكل المطلوب، مشيرًا إلى أنه في أصعب الظروف لعبت هاتان الآلتان دورًا في خلق حالة فنية رائعة بين صفوف المواطنين، وكانت تجمعهم في الكثير من المواقف، بالإضافة إلى سرد القصص الشعبية والبطولية على ألحانها، وسرد القصص التاريخية الحزينة على أنغام الناي، مشددًا على إحياء تلك الآلات وتدريسها للطلاب بمادة الموسيقى منذ الصغر، فهي لا تقل قيمة عن الآلات الحديثة في الوقت الحالي.