مثلت المدينة منذ البدء مركزا ومجالا حيويا حافزا على إنتاج الأفكار وطرح الأسئلة، والفلاسفة بدورهم اتفقوا على أن تكون المدينة هي الحاضنة لمشاريعهم التأملية، كما هو الحال في المدينة الفاضلة لأفلاطون.. لقد ظل ذلك التوق الفلسفي لتحرير المدينة من كل إكراه اجتماعي أو اقتصادي قائما ومتجددا ومطلبا أساسيا للرقي بحسبان المدينة مؤهلة لاستيعاب التحولات والتغيرات واحتواء النقائض بعكس الريف الراكد العصي على الاستجابات السريعة للتحديث. ومنذ عصر الحداثة في القرن التاسع عشر، ومع الاعتماد على مركزية ثابتة للإنسان تقوم في جوهرها على الحيوية والإبداع- صار العلم الجديد مهيمنا على كيان المدينة، متحكما في ثقافتها، ومن خلال العقل الذي أصبح أداة للتقدم الصناعي والعلمي ظهرت الطبقة الرأسمالية التي كانت على استعداد دائم لفرض شروط شديدة الإجحاف تتعلق بالإقصاء والتهميش والنبذ للطبقات الأضعف وفق ما تفرضه آليات الصراع من أجل جني أكبر الأرباح. يرى عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بارك أن المدينة هي "محاولةُ الإنسان الأنجح في إعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه وفق رغبات قلبه. فإذا كانت المدينة هي العالمَ الذي خلقه الإنسان، فقد أصبحت –أيضا- العالمَ الذي حُكِمَ عليه بالعيش فيه. ومن ثمّ وعلى نحوٍ غير مباشر ودون أيِّ فهمٍ واضح لطبيعة مهمّته، في تشكيله للمدينة، أعاد الإنسانُ تشكيلَ ذاته". المدينة تؤكد فردية الإنسان وتغير ذاته بينما يرى "كاستلز" أن هذا الصراع ذو أساس نفسي واجتماعي في المقام الأول، لأن المدينة هي مجال الفرد لتأكيد فرديته، وهو معرَّض لتغير الذات، بعكس مجتمع القرية مثلا الذي يحفظ للفرد ذاته بمنأى عن أي تغيير نعني به الاعتماد على الذات في تطوير القدرات المالية وتجديد الوسائل والآليات وفق ما يقتضيه ذلك. لقد فرضت الرأسمالية بتوجهاتها الصارمة لتحقيق أهدافها عدة مفاهيم صارت هي مجال اهتمام العلماء والفلاسفة بالمدينة، فبدلا من محاولات الارتقاء والتحديث التي تراعي الخصوصية وتحفظ الحقوق- صار التصدي للإقصاء والنبذ وانتشار البطالة وارتفاع معدلات الجريمة، هو ما يستولي على اهتمام الكافة. لقد تحولت المدينة بمرور الوقت إلى مجال مستهدف لإهدار الحقوق لحساب فئة قليلة لاهم لها سوى جني الأرباح الرأسمالية، ولا تتورع تلك الفئة عن اتخاذ قرارات سالبة للحق ومتجاوزة لحدود المعقول برغم أن مبدأ الحق في المدينة هو من المبادئ المستقرة منذ زمن بعد أن قطع النضال من أجل إقراره أشواطا بعيدة، وقدم "المدينيون" في سبيل ذلك تضحيات لا تعد ولا تحصى.. الحق في المدينة لا يخص أحدا بعينه ولا جماعة بذاتها؛ لأن المدينة تخص كل سكانها، وكلهم لهم الحق في إقرار ما يتم بشأنها، وهم المعنيون بخلق مستقبلها وفق احتياجاتهم وطموحاتهم مما يعد صورة من صور تجسيد العدالة الاجتماعية.. ويعتبر الاستئثار بالقرار من قبل فئة أو جماعة حائزة للنفوذ والسلطة والمال هو إهدار لحق أصيل، وعمل يفتقر إلى أدني مشروعية أخلاقية. الحق في المدينة يعني التوزيع العادل للموارد إن الحق في المدينة هو حق يتعلق بالملكية العامة لها، وهو مضاد للتوجهات الليبرالية الجديدة التي تحوّل المدينة إلى سلعة تجارية، مسخّرة الدساتير والقوانين للتكريس لكل أنواع "التمييز العنصري المكاني للإقصاء الاجتماعي للبشر". يتعلق الحق في المدينة أيضا بالمساواة بين سكانها مهما تفاوتت أحوالهم المعيشية، بوصفهم جميعا عناصر إنجاح أو إفشال للمدينة لا بوصف فئة منهم(الفقراء) كمشكلة، والحديث عن أوضاعهم في سياقات الحلول القاسية التي لا تراعي الجوانب الإنسانية، والنظر إلى فئة أخرى(الأغنياء) بوصفهم أصحاب الحق في اتخاذ القرار منفردين مما يحقق مصالحهم.. الحق في المدينة يعني "توزيع عادل للموارد العامة مثل الأرض، والصحة، والتعليم، والإسكان.. دون النظر لاعتبارات التفاوت الطبقي.. وهذا مما يوجب الالتزام القاطع من قبل السلطة بالانصياع لإرادة الجماهير، "بدلا من العمل فقط لصالح النخبة الخاصة أو النخبة الأجنبية". ولا شك أن إقرار هذا الحق يحتاج إلى السعي لانتزاعه، فالدول في النظم الرأسمالية لا تقدم الحقوق كهبات مجانية.. إن الأمر يبدأ بتفاعل المواطنين الناجم عن شعورهم بالأحقية الكاملة في المشاركة في كافة مراحل التخطيط وصنع القرار تحقيقا للاستفادة القصوى من إمكانات مدينتهم، تأسيسا على قاعدة مشاركة الكل الذي يعني تجاوزها أو الانتقاص منها انتقاصا من قدر المدينة وجرحا لمكانتها. إهدار الحق في المدينة وعزل التحديات إن الواقع المتدهور الذي تعيشه المدينة في هذا العصر يعود إلى أسباب عديدة أهمها أن التعامل مع التحديات يتم في إطار عزل كل منها بعيدا عن الآخر، ومن هنا ينشأ التعارض وتضيق مساحة الإنجاز.. لذلك فإن الحق في المدينة هو سعي دؤوب للوصول إلى رؤى تكاملية شاملة لمواجهة تلك التحديات؛ فالحق الأصيل يتسع ليشمل الجميع، ويروم حالة الرضاء العام، أما الادعاءات التي تتزيا بزي المنطق، وهي في الحقيقة ستار يخفي نهم النيوليبرالية في تعظيم الأرباح بغض النظر عما ينتج عن ذلك من مضار تصيب الغالبية بينما تعود الفوائد على فئة قليلة هي بالضرورة انتهازية وساقطة أخلاقيا. ويؤكد "ديفيد هارفي" على أن تلك الظروف التي تفرضها النيوليبرالية المتوحشة بأدواتها القمعية، وقوانينها الجائرة " تصعّبُ استدامة مُثُل الهوية والمواطنة والانتماء المَدينيّ – الواقعة تحت تهديد الانتشار المَرَضي للأخلاقيات النيوليبرالية – أكثر فأكثر، وتُهدِّدُ إعادة التوزيع المُخصخصة للثروة عبر النشاط الإجرامي المهدد للأمانَ الفردي عند كلِّ زاوية، مما يحفِّزُ المطالبة الشعبية بالقمع البوليسي"( كالمستجير من الرمضاء بالنار).. مما يعد إهدارا لقيم المدينة، وإماتة متعمدة لها "كجسد سياسي جمعي" يمكن أن تنبع من داخله حركات اجتماعية تقدمية "تسعى للتغلب على هذا العزل وإعادة تشكيل المدينة بصورةٍ مختلفة عن تلك التي قدَّمها القائمون على التنمية، المدعومون برؤوس الأموال وجهازُ دولةٍ محلي ذو تفكير تجاري". إن الحق في المدينة الذي لفت الانتباه له بقوة المفكر الفرنسي "هنري لوفيفر" عام1986، بينما كان العالم يمور بالثورة على الأنظمة الاستبدادية، والأنظمة الاستعمارية- يهدف إلى العمل على إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وفق أسس عادلة، وهو لا يخشى الجهر بحق الاسترجاع لكل ما تم نهبه لحساب الطبقة، ومن ثم تحويله إلى ما يخدم عامة المجتمع.