44 عامًا مرت على حرب السادس من أكتوبر 1973، إلا أن أبطالها مازالوا يتذكرون كواليسها وأحداثها لحظة بلحظة كشريط سينمائي يمر أمام أعينهم، ويروون بطولاتها كل عام بكل فخر وعزة، غير منتظرين مكافأة أو هدية إلا نقل حماسهم ومحبتهم للوطن والأجيال الصاعدة. الحاج فاروق محمود إسماعيل، أحد أبناء محافظة المنيا، الذين شاركوا في الحرب بفدائية كبيرة، وكان ضمن القوات المحاصرة بثغرة الدفرسوار لمدة قاربت الشهرين، ذاق خلالها برفقة آلاف المجندين العذاب للبقاء أحياءً على أرض سيناء، يروي ل"البديل" ذكرياته السعيدة والمؤلمة في الحرب. يبدأ إسماعيل حديثه قائلًا: لا أعرف من أين أحكي ذكريات النصر، فقصصها كثيرة، وألاعيبها أكثر، غير أن مفاجأتها لم يتوقعها أحد بفضل الرئيس محمد أنور السادات، الذي نجح أن يصل إلى ساعة الصفر والجميع لا يعرف أننا في حرب حقيقية، فما بالنا بالعدو الذي جلس يلهو في يوم عيده، ففي البداية التحقت بالجيش عقب النكسة عام 1968، وانضممت إلى الكتيبة 21 الفرقة 19 بالجيش الثالث الميداني، وكنت سلاح مشاه فرقة مدافع دبابات، وكانت دفعتنا وقتها تسمى بدفعة "صلاح"، وظللنا نأخذ تدريبات شديدة الصعوبة ومكثفة طوال 5 سنوات عن كيفية العبور وحمل السلاح والمدافع، وكنا نتعجب من ذلك لأننا هزمنا في آخر حرب، ولا يوجد أي ملامح للدخول في حرب أخرى. ويضيف: كانت فرحتي الكبرى بإبلاغي انتهاء خدمتي من الجيش في أكتوبر عام 1973 أنا والآلاف الآخرين، وأيضًا أخذتنا القوات المسلحة في رحلة عمرة برفقة عدد كبير من الضباط والمجندين مجانًا، واعتقدنا حينها أننا بالفعل خرجنا من الخدمة العسكرية، لكن تبين لنا فيما بعد أن كل ذلك تمويه من الجيش حتى يعتقد العدو أن قواتنا المسلحة تخفف أعداد القوات ولا نية للحرب إطلاقًا، إلى أن تم استدعاؤنا قبل الحرب ب5 أيام فجأة، وقولنا قد يكون الأمر من باب الاستدعاء ونعود مرة أخرى إلى منازلنا ولكن هذا لم يحدث. يستكمل: في يوم السادس من أكتوبر ونحن صائمون، وجدنا القيادات في حالة نشاط غير طبيعية، وكأن سلسلة من الاجتماعات يعقدونها، إلى أن قالوا لنا "اللي عايز يفطر من الصيام يفطر حالًا"، ولم نبال لذلك، وقولنا أن التدريبات اعتدنا عليها منذ 5 سنوات ولا يوجد جديد، إلا أنه في الثانية إلا ثلث مساءً أخبرونا بأننا سنعبر القناة فعليًا وساعة الصفر بعد قليل، وبالفعل تم جمعنا بشكل منظم وتسلسلي، وقامت بعض القوات بتعبئة وتجهيز القوارب المطاطية، إلى أن تأكدنا من صحة الأمر، بعدما وجدنا مئات السيارات خلفنا تحمل الكباري، وتحولنا إلى خلايا نحل بطول 168 كيلو متر تقريبًا على ضفة القناة، وجاءت الساعة الثانية إلا خمسة ووجدنا ما يزيد على 200 طائرة متوجهة نحو سيناء في صوت واحد لضرب العدو، وبمنتهى التلقائية وجدنا أنفسنا ننطق هاتفين "الله أكبر" وتخرج من الحناجر وتزلزل الأرض، وبدأنا في حمل القوارب والعبور، فكانت أعداد القوارب أقل من عدد الجنود وعادت مرة أخرى لجلب الآخرين. ويستطرد: كل منا يحمل معداته الشخصية التي تزيد على 40 كيلو على ظهره، بالإضافة إلى مدفع وزنه 305 كيلوجرامات أنا و3 آخرين، وأثناء العبور والرمال الأمر كان أشد قسوة، لكن إرادة الله يسرت كل شىء، ووقتها كانت الطائرات نجحت في ضربتها وانتهى قيد المدفعية وأصبحنا أحرارا لفتح النيران، وقمنا بعمل رؤوس كباري في الضفة الأخرى، وبدأنا نتمركز بقوة لصيد العدو. يتابع: أكثر شىء لن أنساه، عندما استهدفت دبابة كبيرة ضمن 3 دبابات، فخرج طاقمها هاربين من الموت وركبوا الدبابة الثانية، وقمت باستهدافها أيضًا وقضينا على الطاقمين سويًا، وكانت النيران التي تخرج منها غير طبيعية وتصل إلى السماء، وجعلت المنطقة أشبه بالنهار، غير أن قوتنا ظهرت بشكل أكبر عندما حدثت ثغرة الدفرسوار، حيث انقطع عنا الطعام والشراب بسبب قطع طريق الرجوع، فكنا نأكل من مقالب القمامة التي سبق لليهود وأن كونوها ببعض المناطق، ونأكل من خبزهم وما تبقى من قشر الفواكه أو المعلبات، بل وصل الأمر بنا أننا كنا نحفر في الجحور ونأخذ أكل الفئران من الخبز وغيره، فالأهم أن نظل أحياء، أما عن المياه فكنا نشرب مياه المدافع والدبابات المتسخة، ورغم ذلك لم نشعر بتسممها أو الصدأ الذي كان يملؤها. ومن المواقف الكوميدية التي رواها البطل، أنه كان يحرس إحدى المناطق بالجبهة، فكان بينه وبين الجندي الإسرائيلي المكلف بنفس الحراسة على الضفة الأخرى ما يقرب من 150 مترا تقريبا عرض الماء، وبالفعل عرفوا أسماء بعضهم، وكانوا يتناوشون ويفعلون المكايد ببعضهم، حيث كان الإسرائيلي يجلب الموز من الكتيبة الخاصة به وينادي عليه ويقول يا مصري هذا لك ويلقيه في الماء في محاولة لإثارته، وكان يدخل هو الآخر للكتيبة المصرية ويأتي بثمار الطماطم ويغيظ بها العدو، ويقول له أنها "تفاح"، حيث يرى كل منهما الآخر في المناظير والمكبرات. "لحظة تركنا سيناء بعد وقف إطلاق النيران، وزملائنا مدفونين بالرمال كان أمرًا صعبًا علينا".. هكذا قال المقاتل، مضيفًا أنهم كانوا يتمنون الشهادة مثلهم والالتحاق بهم في الجنة، وأنه لن ينسى الفريق عبد المنعم واصل، قائد الجيش الثالث الميداني حينها، الذي كان قائدًا بمعنى الكلمة ودائما ما نزل للميدان وجمع حملة الآر بي جي بيده ليعود بها إلى السويس مرة أخرى. في نهاية حديثه، أعرب المقاتل عن استيائه من عدم تكريمه طوال سنين حياته بفضل مشاركته في الجيش والحرب، ورغم مرور 44 عامًا، إلا أنه لا يوجد نظامًا بالمحافظة لاستضافة هؤلاء الأبطال وتكريمهم ولو معنويًا، واقتصار الأمر على عدد محدود جدًا.