لم يكن يخطر ببال الملايين الذين خرجوا في 30 يونيو لإسقاط حكم الإخوان، وإنقاذ مصر من خطة الجماعة لإقامة نظام يفرض تصوراته الدينية أن يصل بنا الحال إلى ما موصل إليه، فالتوظيف السياسي للدين بلغ مراحل غير مسبوقة، من استغلال المؤسسات الدينية، وتسييس خطب الجمعة، واستخدام المنابر لتبرير قرارات السلطة، مع مزايدات سلطوية دينية يحاول بها النظام أن يدفع بها عن نفسه اتهامات الإخوان له بمحاربة الدين. آخر هذه المزايدات تمثل في إنشاء أكشاك للفتوى بمحطات المترو، وكأن المواطن يشكو من قلة "منافذ الفتوى".. وكأننا لا نعاني من سيل البرامج الدينية، ومن إفساح المجال الفضائي لعشرات المشايخ والدعاة الذين لم يزيدوا الجماهير إلا بلبل وحيرة وتسطيحا، وكأن الدولة قد فرغت من مشكلاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولم يبق إلا تسهيل تقديم الفتاوى في المترو من خلال أكشاك، تذكرنا بمنافذ بيع السلع الضرورية بأسعار مخفضة. السلطة في مصر ترى أن المترو هو واجتها السياسية المباشرة، انتظامه يعني انتظام الدولة، السيطرة عليه تعني السيطرة على مقاليد الأمور في البلد، وكذلك أسلمته تعني أن الدولة ترعى الدين، وإن اتهامات الإخوان لها بمحاربة الإسلام كذب يدحضه صوت الأذان المدوي في محطات المترو عند كل صلاة، وعلى من يتشكك أن ينظر إلى "المصليات" التي أعدت في معظم المحطات، وأما من أراد اليقين، فلينظر إلى أكشاك المترو للفتوى، يقبع فيها مشائخ مجمع البحوث، يستقبلون جمهور الركاب، ويتلقون أسئلتهم، ويقدمون لهم الإجابات الشافية في كل شيء.. في كل شيء. من قريب، عرقلت الحكومة أفكارا لنشر المكتبات في محطات المترو، ووضعت الصعوبات المادية والإدارية لكي تجهض الفكرة.. أما أكشاك الفتوى فوجدت العناية والتيسير والسرعة الفائقة في التجهيز وإتاحة أفضل الأماكن في محطات رئيسية مزدحمة.. موقف كاشف لنظرة من يحكمنا إلى الثقافة والفكر، وأيضا موقفه من الدين والفتاوى الذي لا يختلف في قليل أو كثير عن موقف تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان. وقد ابتلع قوم في الصحافة والإعلام ألسنتهم، كما صمت آخرون من أدعياء التنوير، وممن يلوكون عبارة "تجديد الخطاب الديني" ألف مرة كل يوم.. ولنا أن نتخيل مواقف هؤلاء لو أن خطوة الأكشاك تمت في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، كنا سنرى أسودا تزأر كاشفة عن أنيابها مدافعة عن "وجه مصر الحضاري" وعن علمنة النظام العام، وعن استغلال الجماعة للدين، وتوظيفها للأكشاك لنشر أفكارها والسيطرة على جمهور الركاب من حلوان إلى المرج، ومن شبرا إلى المنيب. قال صديقي: وما يضيرك في أكشاك الفتوى؟.. قلت له: لا ضير، وليتكم تعمموها في طول البلاد وعرضها، وليجد المواطن منفذا للفتوى كلما خطر بباله سؤال فقهي، ولتكن الأكشاك عن اليمين والشمائل، ولتدخل الأكشاك في منافسات فقهية، يعني كشك محطة العتبة يقول حرام، فكشك محطة الشهداء يقول حلال، ومن خلال هذا التنافس يتجدد الخطاب الديني، وتنجح الأكشاك فيما فشلنا فيه جميعا. قال صديقي: لن أحكم دون أن أجرب، سأنزل الآن للركوب المترو، وسأدخل إلى كشك الفتوى.. صمت قليلا ثم قال: هل عندك سؤال جيد أطرحه على مشايخ الكشك؟.. قلت له نعم.. اسألهم عن رجل أقسم بالطلاق أن تيران وصنافير مصرية، هل يقع طلاقه أم لا؟.