رغم التنوع الكبير في كتابات المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، ما بين الأدب وعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والكتابة للأطفال ونقد المناهج البحثية الغربية ومحاولة تأسيس منهجية بحثية مختلفة في دوافعها ومنطلقاتها، إلا أن كل هذه الرؤى انطلقت من مجموعة من الركائز والقيم أبرزها الإيمان بالإنسان وقيم العدل والحرية والحق في التجربة والخطأ ومواجهة الطغيان والظلم والهيمنة بصورها المتعددة، ليخلف مشروعات فكرية عدة أسهمت في بناء وعي عربي حقيقي حول مجالاتها. اليهود واليهودية والصهيونية من أهم مشاريع المسيري موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" التي عمل عليها على مدار ربع قرن، وتتضمن ثماني مجلدات، تتناول تاريخ العبرانيين في العالم القديم، وتاريخ الجماعات اليهودية بإمتداد بلدان العالم، وتعداداتها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات والدول التي يُوجدون فيها وبالدولة الصهيونية، كما تشمل كافة الأحوال الاجتماعية والسياسية وكافة الشؤون الحياتية التي صاحبتهم منذ زمن العبرانيين في العالم القديم حتى العصر الحديث انتهاءًا بدولة إسرائيل. أكثر ما يميز الموسوعة هى تفككيها للأساطير التي روجها اليهود عن أنفسهم وأصبح يتم تداولها كحقائق في المجتمعات العربية من ضمنها فكرة "الشخصية اليهودية" أو "الأمة اليهودية"، باعتبار اليهودية هوية قومية لها سمات ثقافية مميزة ومعتقدات ثابتة، وفي هذا السياق يؤكد المسيري على ضرورة التفرقة بين ثلاث مصطلحات وهي: "اليهود" و"الصهاينة" و"الإسرائليين" مشيرًا إلى تعدد الجماعات اليهودية على مستوى الجغرافيا واللغة والثقافة والطائفة الدينية، وبالتالي لا يوجد محددات واضحة يمكن أن نصف بها الشخص "اليهودي"، أما الصهيوينة، فهى حركة كان هدفها الرئيسي تخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي، عن طريق نقْله من أوروبا، وتوطينه في أي منطقة أخرى، وقد استقرَّ الرأي على أن تكون فلسطين هي هذه المنطقة؛ نظرًا لأهميَّتها الإستراتيجية، وارتباطها في الوجدان الغربي باليهود، بينما "إسرائيل" ما هى إلا مجرد جيب إستيطاني، تتوافق مصالحه مع الحكومات الغربية، الهادفة للحفاظ على هيمنتها على المنطقة العربية. في هذا السياق يقول المسيري: "المسألة اليهودية في جوهرها هي مسألة الجماعة الوظيفية التي أصبحت بلا وظيفة، الغرب قرر أن يُنشيء وظيفة جديدة لهذه الجماعات، وهذه الوظيفة هي وظيفة استيطانية، أن يؤسس لهم دولة في فلسطين تصبح هذه الدولة قاعدة لمصالح الاستعمار الغربي، تدافع عن المصالح الغربية نظير أن يدافع الغرب عن أمنها، وهذه هي العلاقة التعاقدية الموجودة بين الدولة الصهيونية الوظيفية والعالم الغربي". يفكك المسيري أيضًا أسطورة "بروتوكولات حكماء صهيون" مشيرًا إلى أن البروتوكولات وثيقة ساذجة للغاية، وقد وجد العقل العربي فيها تفسير للهزيمة، بمعنى أننا هزمنا وهزمنا من عدو ليس مهولاً لهذه الدرجة، فكيف يمكن أن نبرر حالة الهزيمة عندنا، أن ندعي أن هذا العدو عنده قوى شيطانية، فيؤكد المسيري على أن: "البروتوكولات نصٌّ روسي غير يهودي، بمعنى أنَّ مَن كتَبه يَنتمي إلى التشكيل الحضاري الروسي، وإلى الكنيسة الأرثوذكسيَّة، إلى جانب أنه لا يوجد إشارة واحدة للدين اليهودي في داخل البروتوكولات إلا لداوود وسليمان ويمكن أن تكون مصادرها مسيحية إنجيلية". الماركسية والإسلام وصف المسيري نفسه في أحد لقاءاته قائلًا: "أنا ماركسي على سنة الله ورسوله"، هذه الجملة توجز واحدة من أبرز ملامح رحلة المسيري الفكرية التي حاول فيها تطوير رؤيته وأفكاره كماركسي، بحيث تصبح أكثر انفتاحًا على تجربته الإنسانية وتتطور تدريجيًا، متجاوزة الرؤية الفوقية التي تتعامل مع الماركسية بإعتبارها منهج مجرد ومطلق، في هذا السياق ظل المسيري مؤمنًا بضرورة التوزيع العادل للثورة، والمجتمع التشاركي أو "التراحمي" كما يصفه المسيري، لكنه تجاوز رؤية الماركسية للدين بوصفه مجرد أداة للهمينة على الشعوب وفي هذا السياق يقول المسيري "تعلمت في الدروس الماركسية التي تلقَّنْتُهَا أن الدين إن هو إلا أفيون الشعوب، وجزء من بناء فوقي يمكن رده للبناء التحتي، ومع هذا فإنه لا يصلح أساسًا صلبًا للتصنيف وللإدراك، فالأساس الحقيقي الوحيد للتصنيف – كما تعلمنا – هو الاقتصادي. ومع هذا لاحظْتُ أن المكوِّن الديني هو ليس مجرد قشرة ، وإنما هو جزء من الكيان والهُوِيَّة". ويتحدث عن هذه الفترة من حياته: "بدأت أشعر بأن مقولة الدين ذات فعالية في الواقع المادي الصلب، وليست جزءًا مغلقًا من عالم الغيب، أي أن الدين أصبح تدريجيًّا في تصوري جزءًا من الكيان التاريخي الإنساني ليس منفصلاً عنه. ولذا، بدأْتُ أتعرَّف على التجربة الدينية الإسلامية؛ لِأَفْهَمَ منطقها الداخلي"، عبر هذه الرحلة مع الدين والقيم الروحية، عمل المسيري على تفكيك ونقد ثلاث ظواهر مركزية في الحضارة الغربية وهى: العلمانية والحداثة والعولمة، وفي دراسته المطولة الصادرة عن دار الشروق عام 2002، في كتاب من جزئين بعنوان "العَلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، قضية العلمانية في جانبيها النظري والتطبيقي موضحاً الفرق بين «العلمانية الجزئية» و«العلمانية الشاملة»، ورأى المسيري أن العلمانية الجزئية تطالب بفصل الدين عن الدولة وحسب، بينما تلزم الصمت بخصوص القيم النهائية والمطلقة والحياة الخاصة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية والاقتصادية والتربوية. أما العلمانية الشاملة فهي ليست فصلَ الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، لا عن الدولة وحسب وإنما عن مجمل حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص وعن المرجعية النهائية للدولة ولكل قرارات الإنسان، بحيث تنزع القداسة عن العالم، فتصبح كل الأمور نسبية، ويتحول الإنسان والطبيعة إلى مادة استعمالية يوظفهما الأقوى لصالحه. ونتيجةً لهذا يظهر العلم المنفصل عن القيمة، والجسدُ المنفصل عن القيمة، والحياةُ المنفصلة عن القيمة، وبالتالي تتحول إلى أيديولوجية مدمرة لا يوجد فيها مجال للإنسان أو للقيم، ويُشير المسيري إلى أن الحداثة الغربية ومنظومة العولمة التي تجتاح العالم بثقافتها الفردية والإستهلاكية، تعمل وفق هذه المنهجية التي تقوم على تحويل الإنسان لمجرد مادة مجردة، وحتى في حال إدراكها لإحتياجات الإنسان المعنوية والروحية تعمل على تحويلها أيضًا لصورة إستهلاكية، فيتحول الدين لصناعة ومنظومة ربحية ودعائية، وتتحول العلاقات الاجتماعية والأسرية لمجرد علاقة تعاقدية تقوم على المصلحة والمنفعة.