شاب إلى جانب شيخ ضرير، وقوي على بعد خطوات من كهل ضعيف لا يقوى على حمل رجليه، وطفل تحمله أمه وهو يصرخ من حرارة الجو ومرارة الجوع فتهدهده بيديها وتطعمه من فتات الطعام المتناثر هنا وهناك لجفاف الحليب في ثدييها، ووجوه أخرى كالحة أكل عليها الدهر وشرب، وأيادٍ خشنة تشققت بفعل عوامل الجوع والفقر وسعيا وراء لقمة العيش، كل هؤلاء وغيرهم لن تجدهم مجتمعين في مكان واحد إلا على مائدة من موائد الرحمن المنتشرة في شوارع وميادين القاهرة الساهرة العامرة خلال شهر رمضان بأطايب النفحات والبركات من الصدقات، وإن قلت دائرة انتشارها عن السنوات الماضية بفعل جنون الأسعار الذي أصاب كل شيء والتضييق على من يقومون بعمل الخير. على الجانب الأخر هناك حكومة ومسؤولون لا يغادرون مكاتبهم المكيفة ويخططون يوما تلو الآخر ل"العكننة" على المواطنين عبر زيادة أسعار الخدمات من مياه وكهرباء وغاز ووقود، وحتى الدواء الذي طالته نار التعويم، ما ألهب ظهورهم وحرمهم من أبسط الأشياء، ودفع المواطنين إلى الإسراع لحجز مقاعدهم على موائد الرحمن أملا في تذوق طعم قطعة اللحم الصغيرة التي لم تعد رواتبهم الهزيلة تكفيهم لشرائها، وصاروا يحصلون عليها بشق الأنفس بعد أن تجاوز سعر الكيلو 150 جنيها. هنا مطبخ الصائمين على إحدى موائد الرحمن بوسط القاهرة كانت "البديل" هناك على الإفطار ترصد ساعة من حياة المصريين في الشهر الكريم، وهناك لا صوت يعلو فوق صوت "عمل الخير"، يقسم القائمون على المائدة أنفسهم إلى فريقين يعملون على تجهيز الطعام والشراب للصائمين، أحدهما يعسكر في المطبخ الموجود في الجوار لإعداد "الطبيخ" والآخر يضع الطعام بين يدي زوار المائدة، وبينهما يجلس المواطن ليسد جوعه بوجبة ساخنة، ومع اقتراب أذان المغرب تزداد الأعداد حتى يحين موعد الإفطار. على أطراف المائدة الطويلة يجلس عم عبد الجليل، رجل خمسيني يبدو على ملامحه التعب والإرهاق معربا عن حزنه لأنه يرى في جلوسه على المائدة إهانة لكرامته لأنه لم يتمكن من توفير قوت يومه، قائلا، "الواحد بيلم هدومه وهو بيفطر وحاسس بالعجز واليتم كمن يتسول فطاره كل يوم خوفا من أن يراني أحد أولادي الذين تركوني وحيدا بعد زواجهم". السيد علي، ميكانيكي سيارات، كان يجلس في الجوار ويتناول الافطار بسرعة بالغة خوفا من أن يراه أحد معارفه وأثناء تناوله الإفطار يتحدث إلى من يجلس إلى جواره عن غلاء الأسعار الذي حرمهم من شراء ملابس لأبنائهم ويقول إنه يغلي من داخله نتيجة الظروف الظالمة التي دفعته للجلوس على مائدة في الطريق العام، فضلا عن إهانة كرامته ونظرة البعض له على أنه محتاج أو يمد يديه. وعلى نفس المائدة صب إسماعيل إبراهيم، عامل النظافة الستيني متهالك الملامح، جام غضبه على الأوضاع الاقتصادية، فالحكومة في واد والمواطن في واد آخر وكل يوم يزداد الأمر سوءا وكان الله في عون الشعب على تحمله وصبره كل هذه السنوات في ظل مايعانيه من زحمة المواصلات وغلاء الأسعار وقلة المرتبات، متسائلا عمّا قدمته الحكومة للفقراء والمعدمين ممن اضطرتهم ظروف الحياه للجلوس في الشوارع والنوم على الأرصفه، وانتظارهم لموائد الرحمن كل عام بفارغ الصبر. حكومة لا تستحق الرحمة "لا بترحم ولا عاوزة تخلي رحمة ربنا تنزل، هذه الحكومة لا تستحق الرحمة في رمضان".. هكذا خرجت العبارات غاضبة من أحد الجالسين على مائدة الرحمن في مدينة نصر، حين أخبره أحدهم أن محافظ بورسعيد فكر في منع إقامة الموائد هذا العام لأنه يرى أنها تجرح كرامة المواطنين، وقال معلقا: "والغلاء والجوع والقرف اللي بيشوفوه كل يوم ما بيجرحش كرامتهم، ولا اللحمة اللي بقينا بنشوفها في رمضان بس ما بيجرحوش ولا الغاز والكهرباء والمية اللي أسعارهم زادت 500%، والمرتبات ثابتة كل ده ما بيجرحش كرامتهم؟" ثم يصمت للحظات قبل أن يقول "أكيد ربنا مش هيسامح الحكومة دي واللي قبلها واللي فوقهم إلا لما يتحقق العدل بين الكل والفقير يلاقي لقمة شريفة ياكلها ومكان نضيف ينام فيه". سيدة أخرى ثلاثينية يبدو على ملامحها السوداء التعب والشقا، كانت تحمل طفلها على كتفها وهي تدور على المائدة العريضة المكتظة بالصائمين، بحثا عن مكان فارغ وكرسي خالٍ للإفطار حتى قام لها أحد الشباب الجالسين حين سمع صرخات الطفل الصغير تتزايد، والأم على هذه الحال كل يوم. بين طرقات المائدة كان يدور عم صابر، صاحب مائدة في شارع الأخبار بمدينة السادس من أكتوبر، رجل ستيني يقف طوال ساعة الإفطار ويرفض تناول أي شيء حتى يفرغ الصائمون من طعامهم وشرابهم، قائلا: "متعتي إني أفطر زوار الكريم وباشبع لما أسمع دعواتهم"، مبديا سعادته البالغة في استضافة عباد الرحمن طوال نهار رمضان. "العدد السنة دي أكبر من أي رمضان فات".. هكذا يقول عم صابر الذي لا يألو جهدا في إطعام عباد الرحمن المترددين يوميا على المائدة التي تكفي نحو 100 شخص ولا يكتفي بذلك بل يخصص طعاما إضافيا وسحورا لكل من يمر عليه بعد ساعة الإفطار ولا يتركهم يذهبون دون طعام.