أطلقت الدراما التليفزيونية "الجماعة 2" التي كتبها الأستاذ وحيد حامد، السؤال المتجدد حول حقيقة انتماء جمال عبد الناصر لجماعة الإخوان، وكيف أن ثورة يوليو كانت عملا إخوانيا بقيادة عبد الناصر، الذى تمرد على سلطان الجماعة بعدما استفاد من ثقل التنظيم السياسي الأكبر قبل ثورة يوليو، فانقلب على الجماعة التى ربته ودفعته إلى مقدمة الصفوف، وبعيدا عن كتابات حاولت إظهار ناصر بمظهر السياسي الداهية الذي حاول أن يختبر كل القوى السياسية في مصر قبل الثورة، ليحدد أي التنظيمات سيتكأ عليها كظهير لثورة يخطط لها فى إشارة إلى وعي قد لا ينسجم مع حداثة تجربته السياسية أو عمره حتى، أو أنه مجرد عضو في الجماعة تمرد عليها لعدم قدرته على التجاوب نفسيا مع قيادة كحسن الهضيبي فانفصل عن الجماعة نفسيا وحركيا. تبدو شهادة الدكتور حسان حتحوت من أكثر الشهادات التي أبرزت حقيقة هذا الانتماء وما ارتبط به من أدوار، يقول فى شهادته "علمت فيما بعد عن التقارب والثقة بين الإخوان والضباط الأحرار في أثناء الإعداد للثورة، ( تأمل هو يتحدث عن طرفين الإخوان والضباط ولا يتحدث عن طرف واحد)، كان هناك تفاهم كامل بين فريق الضباط الأحرار الذي يجتمع مع فريق الإخوان، وكانت الشخصية الرئيسية في الفريق الأول جمال عبد الناصر.. وقد كان عبد الناصر نفسه في السابق من الإخوان وأعطى البيعة لحسن البنا (تأمل كلمة في السابق أي قبل الإعداد للثورة)، يكمل ثم اقتنع وأقنع أنه من الأفضل أن يستقل النشاط في الجيش، لأن هناك عناصر أخرى أيضا ثائرة على الوضع وترحب بالانضمام لتنظيم يرتب لثورة، ولكن لايربطهم شيء بالإخوان لا عقائديا ولا سلوكيا (هذه الفقرة كاشفة عن قناعات عبد الناصر التي تختلف عن قناعات أي عضو إخواني لايرى العالم سوى بعيون التنظيم، ووفق أفكار التنظيم التي تجعل الجماعة محور الكون والعالم ولا ترى غيرها أو من ليسوا على فكرها أو مشروعها، الذي يبدأ بالفرد فالدولة فالخلافة ثم أستاذية العالم). تصور الدولة لدى عبد الناصر بدا مختلفا منذ اللحظة الأولى، ويكمل د. حتحوت شهادته قائلا: وكان الرعب الأكبر للضباط الأحرار هو أن يكتشفوا من قبل الملك والحكومة، وبالفعل أخذت أسماؤهم تتسرب شيئا فشيئا، لكن الملك أمر بالانتظار حتى تعرف أسماء القائمة كلها وهى من أربعة وعشرين ضابطا، وكان الضباط الأحرار بطريقتهم يتابعون ذلك وتمت القائمة وبقى اسم واحد مجهولا هو اسم عبد الناصر، وفي أحد الأيام علموا أن اسمه قد اكتشف أيضا فلم يبق إلا أن تقوم الحركة بغير إبطاء، وكان الضباط الأحرار حريصين ومتلهفين على موافقة حسن الهضيبي المرشد العام، وكان رده "إذا كان الأمر قد أبرم فنحن لن نخونهم ونحن نقف معهم، أما إذا لم يكن الأمر قد أبرم بعد فإنه لايحب الانقلابات العسكرية ولا يثق بها". يكمل د. حتحوت: "كان واضحا أن الأمر قد أبرم.. استمرت الاجتماعات قبل يوم الثورة ويوم الثورة نفسه وأيام ما بعد الثورة، وكان الإخوان على استعداد للتصدي للإنجليز إن تحركوا من القاعدة العسكرية في فايد، وكان الإخوان ليلة الثورة يحرسون السفارات والكباري والمنشآت العامة"، وتبدو أيضا الفقرة السابقة دالة على أن الإخوان لم يخططوا للثورة مع الضباط، بدليل أن الهضيبي يسأل إذا كان الأمر قد حسم أم لا فيرد حتحوت بأنه قد أبرم بالفعل، ومن أبرمه الضباط الأحرار الذين كان خيارهم الثورة، بينما كان خيار الجماعة هو الإصلاح المتدرج وهو ما كشف عنه الهضيبي بقوله إنه لايحب الانقلابات العسكرية ولا يثق بها. وأتصور أن هذا يغلق الباب تماما أمام ادعاءات البعض أن عبد الناصر كان إخوانيا خان قيادته ومضى بالثورة في سبيل غير سبيل الإخوان، فمن المعروف أن الرجل أخبر كل الكيانات السياسية ولم يكن عضوا بشكل معلن في أي منها، وحقيقة انتمائه بصدق لأي منها يبقى في قلبه هو وحده، نظرا لأنه ضابط جيش غير مسموح له بالانتماء لأي حزب بشكل علني، لكن المؤكد أنه كان لديه صلات بكل القوى السياسية في سبيل تحسس القوة الأولى بأن يعطيها ولائه، وقد كان يأنس في الإخوان أنهم القوة المؤهلة لهذا الدور، وهو ما تكشفه أيضا شهادة للدكتور حسان حتحوت في نفس الكتاب، يقول "وفى مرة أوفدت إلى أسيوط لمحاضرة في شعبة الإخوان وأخرى في المسجد، وكان في محاضرة المسجد عدد من ضباط الجيش من معسكر منقباد، وبعد المحاضرة انتحى بي أحد الضباط جانبا وأدار معي حوارا سألنى فيه، أنتم يا إخوان هيئة قوية فلماذا لا تقومون بانقلاب تخلصون به البلاد من الملك والأحزاب وهذا الفساد الشامل؟ فقلت له إن الخلل الحقيقي هو في وعي الشعب ونضجه الفكري والسياسي والأخلاقي، وهذا ما يعمل من أجله الإخوان (لكن هل ذلك ما عمل له الإخوان بالفعل!)، ولكني أستغرب منك هذا السؤال وأنت تعلم أن الذي سيهب لسحق مثل هذا الانقلاب هو أنتم يا ضباط الجيش، ثم يقول ومضت سنوات طويلة جدا قبل أن تنبعث إلى ذاكرتي ملامح هذا الضابط الشاب، كان وجه جمال عبد الناصر وليسامحني الله إن كانت ذاكرتي قد أخطأت ولكنني لا أحسبها أخطأت"، انتهت شهادة الرجل سواء فيما قبل ثورة يوليو بفترة وجيزة في العام 1950 أو في أوائل الأربعينات حين التقى عبد الناصر الضابط الشاب الذي ينعى على الإخوان أنهم لا ينهضون بدور وطني واضح، يستغلون فيه تلك الطاقة التنظيمية الجبارة، وهو ما يشى بأن ناصرا لم يفكر أبدا في تبني أفكارهم، هو فقط في تقديري كان يراهم رقما صعبا في معادلة مؤسفة هي الحياة السياسية المصرية. لن ينتهي الجدل بالطبع حول السؤال، فالشهادات في تاريخنا تتزاحم لكن المواقف والسلوك ربما يجليان حقيقة كل ذلك التاريخ الملتبس.