إقليم آتشيه الذي يحتل الجزء الشمالي من جزيرة سومطرة إحدى جزر الملايو، وإحدى أهم جزر أندونيسيا- الذي لم ينقطع نداء أبنائه طلبا للاستقلال محاولين إعادة بناء أمجاد سلطنة آتشيه دار السلام التي كانت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ملء السمع والبصر.. هو أيضا ذلك الإقليم الذي دُمر بالكلية وفقد أكثر من سُدس سكانه في تسونامي الأخير.. لكن آتشيه رغم كل المحن والآلام مازالت ترتل آيات الله البينات بأعذب الأصوات، ومازال مسلمو الملايو يتوجهون إليها كل عام، قبل المغادرة إلى الأراضي المقدسة، ويبقى مسماها "شرفات مكة" هو الأكثر قربا إلى قلوب أبنائها. في هذا الإقليم ولدت جوت نجاة الدين عام 1848، في أسرة أرستقراطية حرصت على تعليمها تعليما دينيا، على يد أفضل المعلمين في الإقليم؛ فحفظت القرآن الكريم وهي دون العاشرة وأتقنت تلاوته وكان صوتها ينساب عذبا ساحرا مرددا آي الذكر الحكيم فيخلب الألباب.. لكن أباها ما لبث أن زوَّجها وهي في الثانية عشرة من أحد رجال الجيش المعروفين بالشجاعة والإقدام، وهو تيوكو إبراهيم الذي سيكون له دور كبير في التصدي للاحتلال الهولندي حتى استشهاده عام1878، وكانت مشاعر الغضب والثورة العارمة تؤجج النضال في قلوب أبطال آتشيه الذين أطلقوا على عدوان هولندا على بلدهم اسم حرب الإلحاد، إذ سبق بداية الحرب في1774، وصول الكثير من الجمعيات التبشيرية إلى الإقليم، وكانت تلك التحركات المشبوهة بين السكان المحليين تتم برعاية شركة جزر الهندالشرقية الهولندية التي كانت بمثابة أول موطئ قدم للاحتلال الهولندي في الملايو. علم سلطنة آتشيه دار السلام كانت نجاة الدين في الثلاثين من عمرها حينما استشهد زوجها ولم يكن اهتمامها حتى ذلك الحين ينصب على الأمور الحربية بقدر شغفها بكتاب الله وتعليمه لأبنائها وأبناء شعبها.. لكن استشهاد إبراهيم أحدث تغيرا كبيرا في شخصية جوت، فتركت كل شيء وتقدمت صفوف المجاهدين الذين كانوا يشنون حرب عصابات على قوات الاحتلال أقضت مضاجعهم، وحولت وجودهم في الإقليم إلى جحيم لا يطاق، خصوصا في مناطق الغابات التي كان جنود الأعداء يتساقطون فيها كالذباب.. وكانت نجاة الدين قد رفضت الزواج مفرغة نفسها للجهاد برغم ما تلقته من عروض للزواج منها عرض القائد تيوكو عمر الذي رفضته أولا ثم قبلته بعد تعهد عمر بأن تكون نجاة الدين إلى جواره في المعارك كتفا بكتف، وكان هذا الزواج الميمون عام1880، وكانت جوت في تلك الآونة قد دأبت على إلقاء الكلمات الحماسية في جموع النساء معرفة إياهن بمرامي الاحتلال الخبيثة محذرة من الانخداع بما تقدمه الجمعيات التبشيرية من خدمات، مؤكدة أن الوجه الحقيقي للاحتلال وأعوانه لا يعرف الرحمة بل القسوة والجشع والاستغلال ليس إلا. القائد تيوكوعمر الزوج الثاني لجوت نجاة الدين في العام 1893، يُحاصَر القائد تيوكو عمر مع مجموعة من رجاله لا يتجاوز عددهم أربعمئة رجل ، وبعد نفاذ الذخيرة يضطر عمر للتسليم لقوات الاحتلال، ولا يملك القائد الهولندي إلا أن يبدي إعجابه بعمر لما قدمه من بطولات أظهرت بسالة منقطعة النظير في أصعب ميادين القتال، وتصدر سلطات الاحتلال قرارا بالعفو عن عمر، والإبقاء عليه قائدا لوحدته العسكرية، مع ضمها للقوات الهولندية.. تظاهر تيوكو عمر بالموافقة على القرار، وظل لثلاث سنوات يجمع الأسلحة الحديثة والذخائر من مستودعات جيش الاحتلال إلا أن أيقن أنه أصبح ورجاله على استعداد تام لمواجهة حاسمة مع قوات الاحتلال، وبالفعل يفاجئ عمر قوات الاحتلال بهجوم كاسح في صباح الحادي عشر من فبراير 1899، قرب "ميولابوه" ويحتدم القتال ويلحق عمر ورجاله بالهولنديين خسائر كبيرة إلا أن القدر كان أسبق إليه، فيرتقي تيوكو عمر شهيدا وتتراجع قواته إلى منطقة الغابات، واكتفت قوات الاحتلال بما لحقها من خسائر فلم تجرؤ على التقدم. عندما بلغ نجاة الدين خبر استشهاد زوجها وجمت للحظات ولم تنتبه إلا على صوت بكاء ابنتها، فتوجهت إليها قائلة: يا صغيرتي نحن نساء آتشيه لا نقل شجاعة عن رجالنا؛ لذلك لا يطيب لنا البكاء على الشهداء؛ لأن واجبنا هو إكمال مسيرتهم والانتصار لدمائهم الطاهرة. قادت جوت نجاة الدين القوات منذ استشهاد زوجها، وأدخلت العديد من التكتيكات الحربية التي وصلت بالهولنديين إلى حد الجنون، فهاجمت برجالها مواقعهم أثناء الليل، وسلبتهم ما كانوا يجمعونه من خيرات البلاد، وكان بعض هذه الهجمات يهدف لاستدراج المحتل إلى مناطق الغابات، وهناك كانت تدور حروب العصابات التي لا تجيدها القوات النظامية، فكان الانتصار دائما حليف المجاهدين، مع خسائر هائلة في الأرواح لدى الطرف الآخر الذي دفعه غضبه ذات مرة بعد إحدى الهجمات إلى إحراق المسجد الكبير في باندا آتشيه مما أجج نار الثورة والنضال لدى أهل الإقليم من كافة الأعمار، ووقفت جوت تلهب حماسهم قائلة: يا معشر المؤمنين إنني أدعوكم لإلقاء نظرة بأعينكم وقلوبكم على مسجدنا الكبير الذي أحرقته قوات الكفار.. إنهم يبارزون الله بالعداء، ويدمرون بيته الذي يُعبد فيه، غير عابئين بشيء، فهل ما زال بيننا من يدعونا إلى التصالح مع هؤلاء؟ هل ما زال بيننا من يحبون أن نغفر خطايا الهولنديين، على طريق أن تصبح آتشيه في قبضتهم التي لا تعرف الرحمة.. إن هذا لن يكون أبدا ما دام فينا عرق ينبض. صورة جوت نجاة الدين تزين الورقة النقدية فئة10000روبية إندونيسية منذ عام1998 وتستمر المرأة القرآنية في نضالها ضد قوات الاحتلال التي رصدت مبلغا كبيرا لمن يدل على مكانها، وكانت جوت قد بلغت الثامنة والخمسين من عمرها، وقد تضررت صحتها كثيرا بسبب الحياة في الغابات وقلة الطعام، كما كاد بصرها أن يذهب.. وفي اليوم الحادي عشر من ديسمبر 1906، والذي كان يوافق أحد أيام شهر رمضان، وبينما كانت جوت تتلو آيات الله عقب أدائها لصلاة العصر، تلقي قوات الاحتلال القبض عليها بعد أن وشى بها أحدهم طمعا في المكافأة .. وفي لحظة خاطفة كانت نجاة تلتقط سيفها؛ لتغمده بقوة في صدر قائد قوة القبض الذي لفظ أنفاسه على الفور.. وشكلت قوات الاحتلال محاكمة عاجلة للبطلة الثائرة وحكمت عليها بالنفي إلى سوميدانغ في جاوة الغربية، وقد وقع الاختيار على تلك المنطقة لأن أهلها لا يعرفون لغة آتشيه، كما أن جوت لا تعلم لغتهم.. كان هدف المحتل من ذلك ألا تؤجج جوت نار الثورة في نفوس أهل سوميدانغ. استرعى انتباه أهل سوميدانغ هذه السيدة المسنة المريضة فاقدة البصر التي جاءت إليهم منفية بعد اتهامها بمقاومة الاحتلال وممارسة السياسة، فكانوا يقتربون كثيرا من مكان إقامتها الذي كان ينبعث منه دائما صوتها العذب شاديا بآيات الذكر الحكيم، وما لبثوا أن طلبوا منها أن تعلم أبناء سوميدانغ القرآن الكريم بعد أن أنشئوا مدرسة خصيصا لهذا الغرض، وحظت جوت بأعلى منزلة لدى الأهالي الذين منحوها لقب الأم بريوبو، وهو أفضل لقب يمنح لامرأة في الإقليم.. وفي السادس من نوفمبر1908، تسلم جوت الروح إلى بارئها بعد حياة حافلة بالجهاد عامرة بالإيمان مؤتنسة بالقرآن الذي لم يغادرها إلى آخر لحظات حياتها. بعد وفاتها تولى الأمير سوميدانغ أمر دفنها في مقبرة النبلاء بجبل السمان، ولم يعرف أهل سوميدانغ أن الأم بريوبو التي أحبوها واحترموها ليست سوى تلك البطلة المجاهدة التي قاومت الاحتلال الهولندي لنحو ثلاثة عقود، إذ لم يعلم الأمر إلا عام1960، بعد توثيق الحكومة الهولندية للمعلومات التي تؤكد أن الأم بريوبو والمجاهدة القرآنية جوت نجاة الدين شخص واحد. في عام 1964، أعلن الرئيس الإندونيسي سوكارنو، جوت نجاة الدين بطلة قومية للبلاد، وفي عام1989، حاز فيلم أخرجه إيروس دياروت عن حياتها على جائزة أفضل فيلم أجنبي في مهرجان كان السينمائي، كما وضعت صورتها على الورقة النقدية فئة10000 روبية عام1998.