انجعص الإعلامي الشهير على منضدة مستديرة؛ ليناقش إصلاح الأوضاع المتردية في المؤسسة الأزهرية، وقد استضاف أربعا من الصحفيات أو الكاتبات أو الإعلاميات، ممن يصدق فيهن قول الشاعر: خل عنك الكتابة لست منها.. ولو لطخت ثوبك بالمداد، وكلهن لا صلة لهن بالأزهر ولا بالفكر الديني، ولا تُحسن إحداهن قراءة الفاتحة، لكن لسانها طليق بمقترحات إصلاح المؤسسة الدينية الإسلامية الأكبر في العالم، بدءًا من المطالبة بتغيير المناهج، وانتهاء بضرورة إقالة شيخ الأزهر الحالي. كأنما ضغطت جهة خفية على زر، فدارت على الفور ماكينة الهجوم المنظم على الأزهر ومعاهده، وارتفعت الأصوات المطالبة بإقالة شيخه، وتغيير مناهجه، وتحرك أعضاء في البرلمان العبعالي، لتغيير قانون الأزهر، وطريقة تكوين هيئة كبار العلماء التي تنتخب الإمام الأكبر، وحمّلت الفضائيات والصحف الأزهر وعلماءه ومعاهده المسؤولية عن أحداث الإرهاب، وعن التفجيرات التي طالت الكنائس، وطالب بعضهم باعتبار الأزهر منظمة إرهابية، ووقف الاعتمادات المالية المقررة سنويا للمؤسسة. وقد انساق خلف "الهوجة" كثير من حسني النية، الذين يظنون أن للمؤسسات الدينية دورا كبيرا في ترسيخ الطائفية وأفكار العنف، ويرون أن إصلاح هذه المؤسسات يجنبنا كثيرا من الدماء وأجواء الكراهية. وإذا كان إعلاميو الأمن، وكتاب الأجهزة، لا يصلحون لحوار أو نقاش، ولا يجدي معهم نقد أو حتى شتائم؛ لأنهم يتلقون عمن يشغّلهم، ويأتمرون بأمر من أوصلهم إلى منابرهم وقنواتهم.. فمن الأجدى أن نتوجه بحديثنا إلى أصحاب الضمائر، ممن يرفضون بيع مواقفهم وتأجير أقلامهم، حتى لو اختلفنا معهم في محتوى نقدهم للأزهر، وفي توقيت مشاركتهم في التهجم والتوقح على شيخه. ليس من شك في أن الأزهر يحتاج إلى إصلاح فكري وهيكلي، وأن مناهجه وطرق التدريس فيه أحوج ما تكون إلى تغيير جذري، أو حتى إلى "النسف" كما يحب بعضهم أن يعبر.. لكن أليس من السفه والغفلة أن نتحدث عن إصلاح مؤسسة واحدة، وأن نتجاهل ما في غيرها من مؤسسات "شبه الدولة" من تحلل وفساد وضعف؟ وهل توجد إمكانية أصلا لإصلاح مؤسسة واحدة لتتقدم وتقف على قدميها ومن حولها كل هذا الخراب؟.. بالطبع لا، لأن الإصلاح يجب أن يكون شاملا، وأن يكون في إطار رؤية كلية، وهو ما يرتب أن يكون الإصلاح السياسي هو أولى الأولويات، ومحور كل تغيير، وبما أننا نحيا في ظل سلطة تكره السياسة وسيرتها، فلا أمل في إصلاح للأزهر أو لغيره. وليس من شك في أن الهجوم السلطوي الحالي على الأزهر وشيخه لا يهدف لإصلاح ولا لتطوير، وإنما هي الرغبة في الهيمنة الكاملة، وإخضاع المشيخة ومعاقبتها بعد أن أحرجت رئيس الدولة أكثر من مرة، لتدخله فيما لا يعنيه وما لم يحط به علما، كما تهدف السلطة إلى محو الاستقلال النسبي الذي وفره الدستور الحالي للأزهر وشيخه، مع رغبة واضحة في الإطاحة بالدكتور أحمد الطيب، ليحل محله واحد من صبيان النظام المعممين، الذين لا يدخرون جهدا في تقديم الخدمات المجانية للسلطة، وتبرير ما يقع من جرائم. وفي ظني أن أول طريق الإصلاح الديني أن تتضح علاقة الدين بالدولة، ومساحة الدور السياسي للمؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة) وهي مهمة يقع النصيب الأكبر منها على من يحكم لا على من يفتي أو يدرس.. لقد كان من أهم أسباب ثورة الجماهير على الإخوان ورئيسهم هذا التوظيف البغيض للدين في السياسة، واستخدام المعممين وأصحاب اللحى في الدعوة إلى تبني مواقف الإخوان السياسية.. لكن السلطة الحالية فاقت الإخوان كثيرا في استخدام المشايخ للترويج لممارساتها والدعاية لمواقفها، مما يؤكد أن الهجمة الحالية على الأزهر لا تهدف إلى إصلاح أو تجديد وإنما ترغب في إخضاع شيخ الأزهر الذي لم يبد المرونة المطلوبة في التعاون مع السلطة والسير في ركاب الرئيس. وقد استغل إعلاميو الأجهزة حادثي تفجير الكنيستين في طنطا والإسكندرية في الترويج لكذبة مفضوحة تزعم أن أكثر الإرهابيين هم من خريجي الأزهر، بالرغم من أن نظرة سريعة لأسماء أشهر قادة جماعات العنف والغلو والتطرف والسرية تثبت أن 99% منهم قد تخرج في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية والمنيا، وأن أكثرهم من الأطباء والمهندسين، لكن الغرض مرض، والمطلوب أو "التكليف" كان إطلاق حملة منظمة واسعة وزاعقة ضد الأزهر وشيخه. في المقابل، كان رد فعل الأزهر والمتحدثين باسمه بائسا ومسيئا، بل ويصب في صالح الحملة المعادية؛ فقد كرر عدد من رموز الأزهر ومن بينهم الدكتور محمد عمارة، عضو هيئة كبار العلماء، كلاما من نوع أن هذه الهجمة تستهدف الإسلام نفسه، وتحارب الدين بذاته، وهو خطاب يكاد يتطابق مع خطاب جماعات الغلو التي ترى أن أي إجراء ضدها هو استهداف للدين وللشريعة. وقد بدت المؤسسة الأزهرية فقيرة لا تملك من الكوادر والكفاءات من يحسن التحدث باسمها في وسائل الإعلام، وبدا متحدثوها في حالة عصبية متشنجة، أصواتهم زاعقة، وعباراتهم ركيكة، وخطابهم مهلل.. كما أنهم وقعوا جميعا في خطيئة نفي أي مؤاخذة أو نقد عن المناهج الأزهرية، وتعاملوا بالقاعدة السلطوية المتخلفة التي تقول "كله تمام"، وهي مواقف زادت من التعقيد والتأزيم. قال صديقي: لن ينصلح الأزهر إلا بإجباره على الإصلاح، ولن يغير مناهجه إلى بقرارات سلطوية وإجراءات برلمانية، لقد خاطبناهم كثيرا، وانتقدناهم مرارا فلم نجد منهم إلا الغرور والصد والمكابرة، لذلك فنحن التنويريين نؤيد الحملة على الأزهر وشيخه ونطالب بقرارات وإجراءات تحقق الإصلاح والتجديد المنشود.. قلت وأنا أتضاحك من وصفه لنفسه وأشياعه بالتنويريين: إن يوم القيامة أقرب من إصلاح يأتي عبر السلطة الحالية.. "قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين".