ومن عجبٍ أن الأوروبيين أخذوا كلمة "مدرسة" من لفظ يوناني قديم يعني "الفراغ"، فلم يكن يُقدِم على التعليم إلا من يعجز عن العمل أو يتأفف منه، وبالتالي يمتلك من الفراغ ما يجعله منقطعًا للدراسة، وعلى هذا فقد كان التعليم أمرًا مَشينا عند العامة وملازمًا للكسالى والخاملين. والأمر كان مختلفا عند المصريين القدماء فالمدرسة عندهم هي: "عنخ" أي الحياة. وهكذا رفعوا العلم إلى أعلى الدرجات فكانت الحضارة والعجائب. ولعل الكاتب المصري - صاحب التمثال المشهور - كان في مرتبة الوزير أو يَفوق. [الكاتب المصري] وكأننا لم نتفق مع الأوربيين إلا في شيءٍ واحد وهو: أن كلًّا منا تَنَكَّرَ لماضيه بشتى السبل.. فلم يَعُد العلمُ عند الأوروبيين مرادفًا للفراغ، بل صار أصلًا لكل عمل ومرادفًا لكل نجاح. وقد تنكرنا نحن لماضينا فلم يعد العلم مرادفًا للحياة، وأصبح النجاح مرادفا "للفهلوة".. ومن هنا التقينا مع الأوروبيين في نقطة لنظل مختلفين بقية الدهر. سبتة: استغلت أوروبا عِلمها في بناء قوتها، واستخدمت قوتَّها في السيطرة على شعوب العالم الأخرى. فجعلوا من العالَم تركةً يقتسمونها بينهم، كل على قدر قوته ومكره. ففي البداية كانت هولندا وإسبانيا والبرتغال ومن بعدهم جاء الإنجليز والفرنسيون والطليان.. فرَضوا سيطرتَهم بقوة السلاح وتصارعوا على الأنصبة في بعض الأحيان، إلا أنهم اتفقوا في النهاية على ما يحقق مصالحهم جميعًا، ويُخضع شعوبَ العالم لاستغلالهم. وبعد انتهاء الحرب الكبرى، أقرت القوى العظمى حق تقرير المصير، وجعلوا منه سلاحًا ذا حدين، دقُّوا إسفينهم في البلد الواحد فتنازعت المناطق على السلطة، ومن ثم انقسمت إلى دويلات متناحرة. وتحت غطاء حق الشعوب في تقرير مصيرها انشقت عن الصين دويلات تنافسها وانقسمت كوريا إلى شمال وجنوب، وتخلت مصر عن وحدتها مع السودان، وفي النهاية انقسم السودان إلى سودانين وفي كل البقاع نُخرت المجتمعاتُ بأسافين التمرد والانشقاق. وبهذا تحقق للمحتل القديم تفردّه بالسيطرة دون إهدار قوته، فتناحُرُ الشعوب يضمن له ذلك، ولم يتخلّ المحتل عن مناطق النفوذ في العالم فظل مسيطرًا عليها، فجبل طارق يخضع لبريطانيا حتى الآن ليتحكموا في بوابة البحر المتوسط. وبالجغرافيا والتاريخ والتسمية ينتمى إلى المغرب العربي، ولكن الاحتلال يأبى ذلك، ولم تكن تلك هي الطعنة الوحيدة في جسد المغرب العربي، فهناك مدن مغربية أصيلة مازالت تحت الاحتلال الإسباني حتى الآن، ولعل أهمها مدينتي منيلة وسبتة. وهي مدن مغربية أخرجت لنا عددًا من أكابر علمائنا كالقاضي عياض والإدريسي، وتتمتع سبتة بطبيعة خلابة وموقع جغرافي مميز يجعلها أقرب المدن المغربية إلى أوروبا.. ودق الاحتلال إسفينا آخر في جسد البلد العربي الشقيق فجعلوا من صحرائه الغربية منطقة نزاع، تريد جبهة معارضة الانفصال بها عن الأرض المغربية وهي جبهة البوليسارو، ليس هذا فحسب بل تتنازعها بلدان عربية شقيقة، هي المغرب والجزائر وموريتانيا.. [مدينة سبتة] إنه الاحتلال الذي نهب أرضنا ردحا من الزمن ويريدنا أن نتصارع عليها بقية حياتنا. ومن أسف أن شبابنا ربما لا يعرف عن إسبانيا إلا الأندية المتنافسة في كرة القدم والتي جذبت عقول شبابنا وجرَّتهم نحو صراع صوري على الأفضلية المزعومة. ولولا انتباهنا في صحوة من الزمن لكانت قناة السويس ومدنها تلقى الآن نفس المصير - مصير سبتة ومنيلة وجبل طارق - وربما مصير الكوريتين.. ولكن مهما بلغت الصورة الفوتوغرافية من الروعة والوضوح فستظل الصورة المرسومة أكبر قيمة، وقد رُسم ذلك الوطن في أذهاننا موحدا بصورة لا تقبل الانقسام.