في لقائه التلفزيوني مع الإعلامي محمود سعد، أعلن الفنان القدير عبد العزيز مخيون أنه رفض أدوارًا سينمائية كثيرة بدافع الخجل من الإسفافِ والانحطاط، فقد عاشَ عمرَه يراهنُ على الثقافةِ والموهبة... كان يُعلن ذلك بشيء من الأسف، يَظهرُ من كلامه الندم، فقد حقق فنانون أقلَّ منه موهبةً وثقافةً شهرةً واسعةً وانتشارًا كبيرًا لمجرد قبولهم تلك الأعمال التي لا تتناسب مع شخصية ورسالة الفنان... شعر في النهاية أن رهانه كان "الرهان الخاسر". [عبد العزيز مخيون] يعد مخيون مثالًا للفنان الأصيل، فقد وُلد لأسرة عريقةٍ في مركز أبو حمص التابع لمحافظة البحيرة، أسرةٌ من تلك الأسر المصرية الأصيلة، التي وإن سمحت لأحد أبنائها بالتمثيل، فلن تسمحَ له بالابتذال والإسفاف، وقد تكرر هذا الموقف مع العديد من الفنانين... وها هو يعيش في بلدته مطمئنًا هادئًا لا تطارده أعمالٌ مَشينة، ولا يخجلُ الأحفادُ من رؤيته على الشاشة الصغيرة. ليست الأسرة فحسب، بل والمجتمع الثقافي للفنان – أيضا – يلعب دورًا بارزًا في حياته وأدواره، فلم يكن من الصعب أن تجد نجيب محفوظ ومحمد عبد الوهاب وشكري سرحان يجلسون معًا، في أحد الأندية يتبادلون ألوانَ الثقافة وحولهم مجموعة من تلاميذ الفن والأدب والموسيقى. كان المجتمع ثريًّا بمثل هذه الأجواء التي أنتجت قصةً محبوكةً وأداءً فنيا مميزًا. وجعلت الأفلامَ المصرية في ذلك العهد تناطحُ أفضلَ الأفلام العالمية، وتُترجم إلى الإنجليزية والفرنسية وغيرهما... [عدلي كاسب] كان الفنان المصري متكاملًا إلى حد بعيد، يؤدي أدوارَه بعبقريةٍ فريدة، فتجد فنانًا مثل زكي رستم يتقلب بين أدوار الخير والشر بتميز فريد يجعل النقاد يعدونه من أفضل فناني العالم. كان كلٌّ منهم يبحث عن التميز والتنوع، حتى من عرفناهم ببعض أدوارهم لم يكونوا محصورين فيها، بل تقمصوها فأبدعوا، ومن هنا ألبسهم المصريون تلك الأدوار، فهذا عدلي كاسب (جزار السينما المصرية) وإن لم يكن أدى ذلك الدور إلا في فيلم السفيرة عزيزة، وهذا صلاح منصور (عمدة السينما) وإن لم يقم بدور العمدة إلا في القليل من أعماله وأهمها – بالطبع – الزوجة الثانية. ولم يمنعهم نجاحهم في تلك الأدوار من التنويع إثباتًا لجدارتهم الفنية... ولعل فنانًا حديثا – نسبيا – مثل أحمد زكي قد قدم للسينما تشكيلة متشعبة من الأدوار تبدأ من رئيس الجمهورية ولا تنتهي ببواب العمارة وفي كلٍّ كان متميزًّا... ثم نجد الآن الممثل إن أصابه بعض التوفيق، أو الشفقة من الجماهير على أحد أدواره، ما يلبث أن يتقوقع في ذلك الدور، ويبدأ مسلسل التكرار السقيم. حتى إن أحدَهم قام بدور ثانوي في أحد الأفلام وحصد ضحكات المشاهدين، فجمَّدَ حياتَه في ذلك الدور، وقام ببطولة 15 فيلما – قابلة للزيادة - بنفس الدور ونفس الشخصية ونفس الأداء واللغة والحركات الجسدية... [وداد حمدي] وفي زمن الفن الجميل – كما يقولون – قامت الفنانة وداد حمدي بأداء دور الخادمة في العديد من أدوارها، وهو دور لا يُستغنى عنه في تلك الآونة، إلا أنها كانت متميزة تقدم جديدًا في كل دور عن سابقه، فلم نشعر يومًا أنها مقحمة في العمل الفني. وهذا بعكس ما هو متداول الآن حين لا يملك أحدُهم إلا طريقةً واحدة يؤدي بها دور الخادم والسيد دون أدنى تفرقة. ليس هدفي تعديد مساوئ الفن الحديث، فهي معروفة لمعظمنا، إنما هدفي التماس طريق يعود منه الفن المصري إلى سابق عهده. فأنا أؤمن أن الفن من أهم وسائل التنشئة لأجيالنا، بل ومن أهم وسائل الغزو الثقافي. وهنا أقسم العمل الفن ثلاثة أقسام: الكتابة وأجد في الأعمال القصصية والروائية للكتاب المصريين والعرب وحتى الأعمال الأجنبية التي تناسب مجتمعنا، أجد فيها روائع يمكن أن تكون أعمالا فنية عظيمة. وكذلك تاريخنا الحديث والقديم حافل بإضاءات باهرة تصلح كلُّ ومضةٍ فيها أن تكون عملًا فنيًّا بديعًا، وما علينا سوى شحذ الهمة واختيار أقرب الأعمال إلى التنفيذ والإنتاج. الصناعة لم تعد تنقصنا المعدات والوسائل السينمائية الحديثة من أجهزة وكاميرات حديثة وبرامج معالجة وفنيين على مستوى عال من التدريب، وإنما تنقصنا الإرادة والاختيار لتتضافر تلك الجهود في عمل متكامل. وليس صحيحًا أن الإنتاج الضخم هو سرُّ النجاح والبقاء، فإن أفلامًا سينمائية بسيطة جدًّا صُوِّرت في كادرات محدودة للغاية ولاقت نجاحًا كبيرا. وحين تتوفر في العمل القيمة والحرفية فإن أبسط إنتاج قد يؤدي به إلى القمة. الموهبة أصبحت الموهبة الفنية عملةً نادرة حين تحكمت الواسطة والمحسوبية في عالم الفن، ولم تعد هناك أجيال ذات قدرة على حمل مشعل الثقافة. وإني لأجد من الأهمية بمكان أن نعيد تنشئة جيل من الموهوبين حقا، نسمح لهم بالتواصل مع المجموعة الباقية من جيل العظماء أمثال يحيي الفخراني ومحمد صبحي وعبد العزيز مخيون، وحضور بروفات الأعمال الكبيرة، من مسرح وسينما ودراما قبل أن نصبح صفر اليدين. وبتحديدي تعريفا للفن وهو (الفن = البقاء) فإنني أقول للفنان عبد العزيز مخيون: لم يكن رهانك على الموهبة والثقافة رهانًا خاسرًا، وإن عملًا واحدًا من أعمالك التي تعدها ثانوية – كدورك في فيلم الهروب – سيظل مضيئًا في تاريخ السينما، وفي أذهان المصريين.