جلس الشيخ إمام فى كنف حجرته، متأبطا عوده، مرتديا جلبابه المريح وطاقيته الصوف ونظارته السوداء، ومن حوله صحبته ومحبيه. بدأ يتحسس أوتاره ثم تنحنح -كعادة الرجال قديمًا عند دخول الدار- تلك النحنحه التى نجدها فى مستهل كل أغانيه المسجلة من حفلاته، قائلا: نجيب سرور بيسأل البحر بيضحك ليه ... ومن ثَمّ يشرع فى العزف والغناء، «البحر بيضحك ليه! ..وأنا نازلة أتدلع أملى القلل»، ولم يكد يكمل حتى جاءهم صوت رجل من أقصي المدينة يسعى، «البحر غضبان ما بيضحكش.. أصل الحكاية ما تضحّكش.. البحر جرحه ما بيدبلش.. وجرحنا ولا عمره دبل... نجيب سرور مات يا مولانا». أسبل العود جفونه على أوتاره، وكتم أنينه فى تجويفه المظلم، وسال دمع الشيخ خلف نظارته السوداء، وقال منوحا: «يا عيني يا نجيب»، وأردف فؤاد نجم، «منين نجيب سرور بعده». ذهب الشيخ إمام لحضور جنازة صديقه الشاعر العظيم نجيب سرور، يتوكأ على صديقه أحمد فؤاد نجم. وصلوا المقابر بعد صلاة المغرب بعدما حملوه إلي قبره على ضوء القمر. مال نجم على أذن الشيخ قائلا: «نزلوا صاحبك من النعش إدعيله يا مولانا» .. فأجهش الشيخ إمام بالبكاء فى حرقه، وأقسم أنه يسمع صوته من خلف الأكفان يلقي شعرا : «حَلّوا المراكب مع المغرب وفاتوني عالشطّ واقف بلا مركب وفاتوني بيني وبينك بحور الغربة يا داري يا ناري يا ناري ماتت في البحور ناري». ولم يستطع الشيخ أن يتمالك نفسه ولا صوته من كثرة البكاء فضمه صديقه الفاجومي إلي صدره قائلًا: «دا ارتاح يا شيخ راح عند الأحسن منا ومنهم.. منهم لله!». فيرد الشيخ : «يا عين يا عين صعبان عليّ يا قلب الورد يا صغيَّر و الله دا كان بدري عليك تتلوّع و تتحيّر الطير دا مين هشه؟ ع الريح بنى عِشه؟ يا عود ريحان أخضر والغربة بتحشه». يمد الشيخ إمام يده أمامه متحسسا ويسأل عن النخله: « فين النخله! فين النخله؟» فيرد صديقه: نخلة ايه يا مولانا؟ فيقول: سامعه بيكلم نخله قدامه: «عواف عليكي يا نخلة مضلِّلة على الباب راخية الضفاير وحاضنة الأهل والأحباب» فيتلفت نجم فيرى خلف المقبرة نخلة عالية جريدها أخضر وبلحها طارح.. قفلوا الباب يا مولانا والناس بدأت تتحرك ضلموا عليه يا حبيبي أتاريه بيقول: «يا سهرانيين في القمر . ليل الغريب ضلمة يا عيني يا ليلي ...لا قنديل ولا نجمة». وعندما هم الشيخ إمام بالإنصراف سمعه يقول: «مناديل دي ولّا قلوع؟ وده بحر ولّا دموع؟ خدوني يا راجعين . فايتينّي ليه ولمين» فالتفت إلى المقبرة وقال: لا عمرى هفوتك ولا هنساك. وألقي عليه السلام للمرة الأخيرة وذهب بعدما جفت عينه من البكاء . بالطبع لم يلقي نجيب سرور تلك القصيدة من قبره كما سمعها الشيخ إمام أو كما توهمت أنا. ولكن كتبها من قبره الدنيوى بعدما أودعوه مستشفى الأمراض العقلية والتى توفي بها يوم 24 أكتوبر سنة 78. توفي شاعر العقل فى معتقله السياسي فى مستشفى الأمراض العقلية عن ستة وأربعين عامًا، فلم يجد الشيخ إمام رثاء لصديقه نجيب سرور خيرا من كلمات نجيب سرور نفسه. كاتب هذه القصة القصيرة، مهندس بترول وسينارست، يكتب مجموعة قصصية لبوابة الأسبوع، تنشر كل ثلاثاء.