كثيرا ما حدثتني أمى عن طفولتها، وحالة الود والترابط التى كانت تربط اسرتها بالأقارب والجيران، وغرفة الضيوف أو (أوضة المسافرين) كما كان يطلق عليها، المخصصة لاستقبال أي قريب وافد قادم من محافظة أخرى لزيارة أو قضاء مهمة ما فى المدينة، وكان من العيب أن يأتى أحدهم من الأقاليم ولا تتم استضافته فى بيت أحد أقاربه، مع مراعاة التقاليد المصرية والحفاظ على حرمة البيت. ومع تغير نمط الحياة، والازدحام، وتقلص مساحات الشقق، وقبل ذلك انكماش العلاقات الاجتماعية اختفت تلك الغرفة، وانتهى عهد استضافة الأقارب. كما قصت أمي على مسامعى ذكرياتها مع (الخدم)، هؤلاء الذين يساعدون ربة المنزل فى الأعمال المنزلية، ويقيمون اقامة دائمة بالمنزل، ويعاملون كأنهم من أفراد الأسرة، ولهم حق فى السكن والمأكل والملبس بالإضافة إلى راتب شهرى ثابت ومنح مالية فى المناسبات. كان الخادم الصبى يلتحق بالعمل لدى الأسرة منذ صباه، ويظل معها وإن تزوج ولا يتركها إلا فى أحوال قليلة، وكانت الفتاة تستمر فى العمل حتى زواجها وانتقالها إلى بيت زوجها، وتساهم الأسرة في تكاليف (جهازها) لأنها ابنة المنزل. هذا بخلاف العاملات اللاتي تأتين مرات معدودات خلال الأسبوع للمساعدة فى مهام محددة، ففى عصر ما قبل اختراع الغسالة الكهربائية، كان هناك دائما (أم فلان الغسالة) التى يقتصر عملها على مهام غسيل الملابس والمفروشات. ولا أعلم حتى الآن سبب الاستعانة بإحداهن للغسيل رغم وجود عاملات مقيمات بالمنزل!! وتعليل ذلك – حسب رواية أمي - أن عملها هو الغسيل فقط في حين ان الأخريات تقمن بالتنظيف والطهي ورعاية الأطفال، باختصار انه التخصص!! ومن المفارقات الغريبة أن مع ظهور الغسالة الكهربائية فى مصر – تقريبا في أوائل الستينيات، وكانت تعرف باسم (تايجر) - استعانت ربات البيوت بالعاملات لاستخدامها اشفاقا عليهن من البطالة!! وتحول عملهن إلى وضع الملابس بالغسالة الكهربائية التي تعمل بالموتور ومروحة واحدة جانبية، ثم تحريك الذراع الخاص لعصرها، وإخراجها، واتمام (الشطف) خارج الغسالة، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى اندثرت المهنة مع تطور صناعة الغسالة الكهربائية. وقد أثر التطور على تلك المهنة كغيرها من مجالات العمل، فتغير المسمى من خادمة إلى شغالة إلى مساعدة حتى وصل إلى Housekeeper, Babysitter ومن القادمين من القري الصغيرة للأجانب من دول أخرى، ومن عامل مقيم إلى عامل بالوقت. ويعاني المجتمع المصري حاليا من أزمة في العمالة المنزلية، فمع صعوبة توفير العمالة المقيمة لظروف اقتصادية واجتماعية عديدة، كثر الطلب على العمالة حسب الوقت، فأصبحت سيدة المنزل تستعين بمن يساعدها وفق مواعيد عمل محددة لا تزيد في الغالب عن 6 ساعات لمرة أو أكثر اسبوعيا، وتدهورت بالتالي العلاقة بين الطرفين، فاختفى ارتباط العامل وانتمائه للأسرة التي التحق بالعمل لديها، وتراجعت كثيرا ثقة أهل المنزل بمن يقدم لهم الخدمة، وأصبحت العلاقة قائمة على المنفعة المتبادلة بلا مشاعر، خاصة مع المغالاة في الأجور اليومية المطلوبة، وتذمر كل طرف، حيث تطلب صاحبة المنزل أداء كل المهام بأقصى جهد بحجة أن الوقت مدفوع الثمن، والعامل يرغب في بذل أقل مجهود حتى يحتفظ بقواه لاستكمال عمله بمكان آخر، وكلاهما لديه مبررات ويشعر أنه على حق!! فالعشرة لا وجود لها، و(العشم) لم يعد له مغزى، والسوق عرض وطلب، والطلب المتزايد جعل من العمالة المنزلية عملة نادرة، ومن يرغب في الاستعانة بخدمات معاونة عليه حجز موعد مسبق يخضع لجدول مواعيد مزدحم، ومدى توفر وقت فائض لدي العامل من عدمه، ومعاييره الخاصة فى قبول العمل، فالعمالة المنزلية تفضل من يستعين بها فى أوقات محددة ومنتظمة كل أسبوع عن المنزل ذي الميعاد الطارئ، وتفضل الأسرة الصغيرة، والمنزل الخالي من الأطفال، والبيت المودرن بسيط الأثاث، ومن يمنحها هدايا فى نهاية اليوم سواء مادية أو عينية، وبالطبع من يمنحها أجرا أعلى. ويظل الود بين الطرفين مفقودا.