فى إحدى ليالي الصيف، وبعد انتهاء يوم طويل شاق واجتياز ضغوط العمل، وانتهاء معاناة القيام بالمهام اليومية فى ظل درجة حرارة تكاد تقترب من الأربعين لتؤكد أن الطقس برطوبته ولزوجته يتناقض تماما مع خدعة دروس الجغرافيا التي لقنت أجيال وأجيال جملة (حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء)، وبعد الهروب من زحام الشوارع وضوضاء الباعة والاختناق المروري، والتخلص من سخافات ومضايقات بعض البشر، والنجاة من مكائد بعض الحقودين الغيورين، والخلاص من برامج (التوك شو) المثيرة للجدل بصخب مقدميها وسياساتها المليئة بالتأييد والنفاق و(التطبيل) أحيانا أو الهجوم والمعارضة الضارية فى أحيان أخرى ..الخ جلست مع أسرتي ليلا أتمتع بالسكينة والراحة المغلفة بأنسام باردة تتصاعد من (التكييف) الصغير المطل علينا من أعلى ولو نطق لقال (لولاي لغرقتم فى بحر الرطوبة)، إنها أمسية هادئة من تلك الأمسيات الأسرية الهانئة التي تقطر سعادة خالصة تشحن قواي لمواصلة الحياة، واخترنا قناة تهتم بالفن الأصيل لتشاركنا تلك الجلسة، فاذا بصوت نجاة يصدح برائعة من روائع نزار قباني (أيظن). ولو كتبت عن نزار وقصائده لن تكفيني آلاف من المجلدات والمواقع الالكترونية، أتذكر إنني فى صغري أحببت أصالة وكاظم الساهر بسبب غنائهما قصائده، لقد ترك إرثا لنساء العالم يجعلهن فى حلم دائم بلقاء رجل يغازل حبيبته كأبطال قصائد نزار، لقد مات الرقى وانتحرت الرومانسية بموت نزار ولم تعد تحيا إلا داخل كلماته!! ها هى نجاة تتغنى بجملة (حتى فساتيني التي أهملتها، فرحت به، رقصت على قدميه)، وتعيدها عدة مرات متألقة ومترنحة بنشوة الفرحة لينتشي جمهور الحاضرين بدوره ويشتعل تشجيعا واستحسانا!! وكعاداتنا الأسرية بدأت أمي تحكى لي ذكرياتها وأبى مع الأغنية، وإذا بها تردد فى حسرة ((دلوقتي خلاص مفيش فساتين، البنات بتلبس بنطلونات محزقة ومقطعة!!))، جملة اعتراضية مستنكرة لخصت حال بنات الجيل، وجعلتني أفكر فى تلك الفساتين الأنثوية بموديلاتها الأنيقة التي أصبحت محرمة على حرائر مصر، ليس فقط كاستجابة لضغوط بعض فئات المجتمع فيما يخص ضرورة ارتداء ما يسمى (عباية) مع الحجاب والخمار والنقاب، أو تنفيذا لتقاليد طبقة اجتماعية تفرض على نسائها ارتداء فستان فضفاض (جلابية) لتغطية كل جسدها، وانما امتثالا لروح العصر والحياة السريعة والواقع المرير الذى يجعل السيدات يصارعن فى الطرقات للسير بشكل آمن دون التعرض للتحرش اللفظي والجسدي، أو للفوز بركوب وسيلة مواصلات ملائمة دون امتهان ..الخ فضلا عما يتطلبه الفستان من تأنى فى المشي والحركة مما يتعارض مع أسلوب الجري والسباق مع الوقت للحاق بمواعيد العمل أو توصيل الأطفال للمدارس والتدريب ...الخ كما أنه لا يعطى خيارات كثيرة لتبديل المظهر يوميا مما يستلزم تغييره بموديل آخر بما يتبع ذاك من انفاق مادى زائد، فى حين أن البنطلون يتغير شكله مع تغيير (البلوز) أو (الجاكيت) بألوان مختلفة. وكلها عوامل ساعدت على اختفاء الفستان واستبداله بالبنطلون العملي المريح، أما تلك البنطلونات الممزقة فهى أمر مختلف يتعلق بتقليد الموضة دون وعى، ومن المعروف ان البنطلونات (الجينز) قد ظهرت فى القرن 19 تقريبا، وكانت فى البداية مخصصة لعمال المناجم لتتحمل ظروف العمل الشاق، ثم انتشرت رويدا رويدا حتى اجتاحت كل الأوساط الاجتماعية فى شتى بقاع العالم، ولقد بحثت كثيرا لكنني لم أتوصل لمبتكر الاضافات المختلفة بدء من موضة ال dirtyمرورا بالبنطلون الممزق، ثم الملطخ بالوحل ووصولا إلى المبلل!! ناهيك عن البنطلون (الساقط) والذى يقال انه موضة ظهرت فى أمريكا بسبب منع المساجين من ارتداء أحزمة حتى لا تستغل للقتل او الانتحار شنقا، ولم يستطيعوا التخلي عن تلك العادة بعد الخروج من السجن فصارت موضة!!! ولا أجد سببا لانتشارها فى مصر إلا التقليد الأعمى دون تفكير في مدى توافقها مع العادات والقيم والأخلاق من عدمه!! والمؤسف انها انتشرت بين الجنسين، ولا أفهم سر اصرار الفتيات على ارتدائها مع اضطرار بعضهن لاستخدام طبقات من الملابس منعا للتعري، وأيضا لا أستطيع ادراك سر فخر الشباب بمظهرهم المقزز الناتج عن ظهور ملابسهم الداخلية بسبب (الوسط الساقط). لقد أجبرت نساء مصر على التخلي عن مظاهر أنوثتهن سعيا وراء شعارات المساواة والحرية والمدنية، بالرغم من عدم تعارض هذه المفاهيم مع الأنوثة، فهل يجرؤ أحد أن يصف فاتن حمامة بفساتينها الراقية الأنيقة بالدونية والعبودية والرجعية!!! هل يقال هذا عن زبيدة ثروت، ايمان، نادية لطفى، مريم فخر الدين، شادية، وغيرهن من فنانات الزمن الجميل اللاتى كان الفنان أحمد مظهر لا يتحدث عن احداهن إلا بلقب (الست فلانة)، وحينما تم سؤاله عن تمسكه بكلمة الست أجاب قائلا (لأنهم ستات، ستات بجد، ده أقل وصف يتنادوا بيه .. مفيش أعظم من اللقب ده يتوج معنى وجودها ...) وأضاف أن النجوم الرجال – فى ذلك الوقت – اتفقوا على كتابة اسم الفنانة (الست) على التتر قبل أسمائهم. انها كلمات فارس من فرسان الزمن الجميل تدل على مدى احترام الرجال - فى تلك الحقبة الزمنية - للسيدات وتقديرهم لهن، فهل هناك ابلغ من ذلك للدلالة على المكانة المتميزة للمرأة فى المجتمع!! وتجد كذلك أن القول الدارج (ست بمليون راجل) يقدم أيضا قيمة (الست) قبل أى وصف آخر. لقد كانت السيدة المصرية، تفتخر بأنوثتها وتختار ما يناسبها ويبرز اعتزازها بنفسها، ولم تكن تعانى من احساس بالنقص، ولم تشعر أن الرجل أفضل منها لأنها ترتدى الفستان!! هكذا عاشت أمهاتنا فى زمن الأناقة والرقى واستمتعن بكونهن سيدات. عزيزتى (الست)، لا تتخلى عن نفسك، وجوهرك ومظهرك الأنثوي، احرصي أن تظلي (ست) فى كل أحوالك، طالبة، زوجة، ربة منزل، موظفة، عاملة، طبيبة، محامية، محافظة أو وزيرة، عليك بمواصلة نجاحك وتفوقك وتحقيق كل ما تريدين، لكن حافظي على كينونتك ووجودك فربما فى يوم ما تعود الفساتين التي أهملتها لتفرح به وترقص على قدميه !!