كان يجلس فى الصف الأول، شيخ بلغ من الكبر عتيًا، يرتدى جلبابه النوبى، ربما لم يسترع حضوره فى البداية انتباه الكثيرين، فهو، ليس نجمًا سينمائيًا، ولا إعلاميًا، ولا لاعبًا رياضيًا شهيرًا. كانت المناسبة احتفالات مصر بالذكرى الرابعة والأربعين لانتصارات أكتوبر 1973، بدأ الحفل عقب حضور الرئيس مباشرة إلى القاعة الجديدة التى أقامت فيها القوات المسلحة حفل الانتصار العظيم، وعندما جاء دوره وقف كالأسد، ممسكًا بالميكروفون للحديث والتعليق. كانت الشئون المعنوية للقوات المسلحة قد أعدت فيلمًا تسجيليًا عن المصرى ابن «النوبة الأصيل» المساعد أحمد إدريس صاحب فكرة «شفرة حرب أكتوبر»، إنها الشفرة التى كانت لغة التواصل بين قادة الجيش، بعد أن نجح العدو فى «فك» العديد من الشفرات التقليدية، فجاء إليهم بالحل، وعندما التقى الرئيس السادات قبيل الحرب بقليل اتفق على الخطة، وبدأ التنفيذ فى صمت، فتحقق الهدف وتحقق الانتصار. مضت السنوات دون أن يعلم أحد حقيقة ما جرى، ودون أن يعرف الناس أحمد إدريس وهويته، ظل محافظًا على السر سنوات طوالاً، حتى جاء إلينا فى الذكرى الرابعة والأربعين بعد جهد جهيد، وبحث عن سكنه ومكانه. عندما شاهد الحاضرون الفيلم التسجيلى الذى يجسد الحدث ضجت القاعة بالتصفيق، تقدم الرئيس نحو الحاج أحمد إدريس وراح يعانقه عرفانًا بدوره وتقديرًا لشخصه. التقيت الحاج إدريس وتحاورت معه، كم شعرت بوطنيته وانتمائه وزهده، فهو لم يفعل المستحيل كما يقول، بل قام بدوره الطبيعى لصالح بلاده والمؤسسة العسكرية التى كان ينتمى إليها. إن الحاج أحمد إدريس هو نموذج لأبناء مصر المخلصين، ترعرع وعاش فى أرض أجداده أرض النوبة، إلى الجنوب من أسوان، كبر وكبر معه الحلم بالعودة إلى قريته حيث قضى فيها أجمل سنوات عمره. لا تلوموا أبناء النوبة على حقهم فى العودة إلى قراهم كما أكد الدستور، فهذه القرى عاش فيها آباؤهم وأجدادهم قرونًا طويلة من الزمن، ترعرعوا على الأرض الطيبة، وجاهدوا وكافحوا من أجل حمايتها وحماية حدودنا الجنوبية. لقد تعرفت عن قرب على الفنان النوبى الأصيل محمد حمام والمبدع محمد منير، وعضو مجلس الشعب السابق مختار جمعة والمناضل زكى مراد وغيرهم كثيرين، وكانوا دومًا مثالًا للوطنية والانتماء. وفى عام 2006 عندما سافرت لإحياء ذكرى رحيل الصديق مختار جمعة فى مركز ناصر، كانت كلمات أبناء النوبة فى الحفل تعبر عن اسمى آيات الانتماء والارتباط والاستعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس من أجل هذا الوطن.. لا أريد أن أتحدث عن صفات المصرى )النوبى(، فأهل النوبة هم أهل الحضارة، وهم الذين علَّموا كما تقول الوثائق الإغريقية العالم نظام الملك ونظام الترقى بين الوظائف. لن أعدد أسماء ملوكهم، ولن أغوص فى تاريخهم، ولكن يكفى القول إن الملكة حتشبسوت ونفارتار وتيتى )حماة إخناتون( جميعهم من أهل النوبة، التى يرجع تاريخها إلى العصر الحجرى، وكانت تمثل أول حضارة فى التاريخ. ضحى أبناء النوبة كثيرًا من أجل الوطن، هاجروا فى أعوام 1902، 1912، 1933، وقبلوا بالتهجير فى عام 1963، من أجل بناء السد العالى فى المناطق والقرى التى كانوا يقطنون فيها. تحمل النوبيون آلام الغربة، ومشاكلها، التزموا الصمت وانتظروا الوعود، ومرت السنوات، وهم ينتظرون..وفى شهر مارس الماضى كانت كلمات الرئيس السيسى بالنسبة لهم باعثًا للأمل من جديد، عندما تدخل لحل مشكلة «خور قندى» سعد النوبيون كثيرًا، وتوقعوا أن يجرى تفعيل المادة )236( من الدستور بالطريقة التى تراها الدولة. انتظر حوارًا مثمرًا يؤدى إلى نتيجة فاعلة وحقيقية، التقوا العديد من المسئولين، ولكن اللقاءات لم تسفر حتى الآن عن نتيجة تذكر.. النوبيون يقدرون الظروف، ويعرفون أن مصر تواجه تحديات عديدة، وأن البلاد تخوض حربًا عاتية ضد الإرهابيين وتنظيماتهم، لذلك يرفضون أى محاولات خارجية تستهدف التحريض أو المزايدة، ويلفظون من بين صفوفهم كل هؤلاء الذين يصطادون فى الماء العكر، وقد عبروا عن ذلك فى كثير من المواقف والأزمات. وخلال الشهور الماضية عمت أبناء النوبة حالة من الحزن الشديد بعد القبض على عدد من أبنائهم، الذين نظموا مسيرة سلمية بالوقوف لتقديم مطالبهم إلى المسئولين بمحافظة أسوان، توجهوا بنداءات متعددة إلى رئيس الجمهورية للعفو عنهم والحفاظ على مستقبلهم، خاصة أنهم لم يرتكبوا أعمال عنف ولم يطلقوا أى شعارات معادية. إن أبناء النوبة حريصون على الوطن وسلامته، وهم على يقين أن الرئيس السيسى سوف يضع فى فترة حكمه حدًا لمعاناتهم ومشاكلهم وأزماتهم بما يحمى الوطن وسلامته ويضمن العدالة بين كافة أبنائه.