كانت تلك هى المرة الأولى، وكان اللقاء فى الدور التاسع من مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى الواقع على كورنيش النيل.. وكان الموعد أبريل من العام 1976. كنت قد سمعت كثيرا عن الدكتور رفعت السعيد، المناضل الوطنى اليسارى، وكان الرئيس السادات قد أقر فى هذا الوقت بنظام المنابر الثلاثة داخل الاتحاد الاشتراكى «الوسط اليمين اليسار». كنت طالبًا بالثانوية العامة، ومع بدء الإعلان عن تأسيس منبر اليسار، حضرت ومعى مجموعة من أبناء محافظتى قنا، لنشارك فى تأسيس منبر اليسار، حيث أعلن أن المنبر يضم «الناصريين والقوميين والماركسيين والتيار الدينى المستنير». ولأننى كنت ومازلت أنتمى للفكر الناصرى.. فقد وجدت فى هذا المنبر، أنه الوعاء التنظيمى المناسب للانضمام. فى هذا الوقت التقيت د. رفعت السعيد.. والذى كان يعمل جنبًا إلى جنب مع السيد خالد محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة «الأسبق» جنبا إلى جنب فى المجلس المصرى للسلام. التقانا د. السعيد بوجهه البشوش، جلس معنا، تحدث عن المنبر وعن الإطار، وعن الثوابت، وعن بدايات التأسيس، ثم أبلغنى بعد ذلك أن النية تتجه إلى اختيارى عضوا فى السكرتارية العامة لمنبر اليسار، والمكونة من 39 عضوا، وكان ذلك هو الإطار التنظيمى الأعلى للمنبر. بدأت حركة تنظيمية فاعلة، عدت إلى بلدتى، لأؤسس الإطار التنظيمى للمنبر بالمحافظة، تجولت فى أرجائها استطعت أن أحقق الهدف خلال شهور قليلة.. كان الدكتور رفعت السعيد هو «دينامو» الحركة وهو أقرب الكوادر إلى السيد خالد محيى الدين رئيس المنبر، وكان هو الحلقة الرئيسية التى تربط بين قيادة المركز وكوادر المحافظات. اقتربت منه كثيرا، أعجبت بشخصيته فى إدارة العمل التنظيمى، كانت لديه قدرة غريبة على الاحتواء، وتواصل لا يتوقف، يجعلك دوما محط الاهتمام، لم يكن يعرف لنفسه بيتًا إلا فى وقت متأخر من المساء، وكانت زوجته السيدة ليلى الشال ترافقه فى تحركاته التنظيمية وتعمل جنبًا إلى جنب مع السيدة فريدة النقاش وشاهندة مقلد وعظيمة الحسينى وأمينة شفيق فى تأسيس حركة نسائية قوية فى كافة المحافظات.. وفى يناير 1977 كانت مصر مع الحدث الأخطر، لقد قامت الحكومة المصرية برفع أسعار بعض السلع الأساسية، وكان رفعت السعيد قد بعث إلينا ببرقيته الشهيرة التى تطالبنا بالوقوف مع الشعب، وعمت المظاهرات أنحاء البلاد فى 18 و19 من الشهر نفسه. تحمل رفعت السعيد المسئولية، رفض كافة التحذيرات التى قدمت إليه من د. مصطفى خليل الأمين العام للاتحاد الاشتراكى العربى، كان موقفه جسورًا، لم يتردد، ولم يخف. وخلال أيام قليلة كنا قيد الحبس الاحتياطى، وفى قنا حيث توليت قيادة المظاهرات، فقد تم حبسى حبسًا مطلقا لمدة ثلاثة شهور فى سجن قنا العمومى. وكان رفعت السعيد فى هذا الوقت يتابع أحوالى من خلال شقيقى محمود بكرى، وأرسل إلى باثنين من أشهر المحامين فى هذا الوقت، وهما أحمد نبيل الهلالى وعبدالله الزغبى ليتوليا الدفاع عنى وعن زملائى حتى تم الافراج عنا. لقد تولى د. رفعت السعيد هذه المهمة لكل المحبوسين فى أحداث يناير 77 فى المراكز والمحافظات، وكان يتواصل مع أسرنا جميعًا، وكان يدرك أن الأحكام سوف تصدر لصالحنا جميعا، وهذا هو ما حدث. ظلت العلاقة بينى وبين د. رفعت السعيد قوية يحكمها حتى الاحترام، حتى جاء صيف عام 1984، عندما قرر د. يحي الجمل والسيد كمال الدين رفعت الانسحاب من حزب التجمع فقررت الانسحاب معهما، بعد فترة نضالية ظللت ومازلت اعتز بها حتى اليوم.. كان د. رفعت السعيد معى فى كل المرات التى اعتقلت فيها فى مظاهرات قنا ضد إنشاء سفارة إسرائيلية فى القاهرة عام 1980، وعندما جرى اعتقالى فى أحداث سبتمبر 1981، وغيرها من الأحداث، لم يتخل ولم يتراجع، بل كان دوما متواصلا ومساندًا لكوادر التجمع فى كل مكان. كانت تجمعنى به علاقة انسانية من نوع غريب، ظلت هذه العلاقة حتى اليوم الأخير من حياته، وعندما كان يتعرض للهجوم من بعض الأصوات والأقلام المسمومة، كنت دوما أجد نفسى فى خندق المدافعين عنه، ربما لأننى عرفته عن قرب. لقد حافظ د. رفعت السعيد على حزب التجمع فى ظل ظروف صعبة، وعواصف جانحة، كان لديه وعى بما هو استراتيجى، وما هو تكتيكى كان يعرف كيف يقود السفينة باقتدار، حتى فى أشد الظروف صعوبة. وكان منذ أن عرفته محددًا فى موقفه من جماعات المتأسلمين السياسيين، وكان يقصد من يوظفون الدين لحساب السياسة، تصدى لجماعة الإخوان وكشف زيفها زيف تاريخها، أصدر كتابًا عن «حسن البنا» أوضح فيه حقيقة أهداف جماعة الإخوان وخطرها الداهم، وكان من الأصوات القليلة التى كانت لها مواقفها المبدئية التى لا تتزعزع فى هذا الشأن. وأشهد أننا وأثناء حوارات المجلس العسكرى مع الأحزاب السياسية بعد أحداث يناير 2011 وخلال فترة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور فى مارس وأبريل ومايو 2012، كان رفعت السعيد يتصدى وبقوة لأطروحات حزب الحرية والعدالة ورئيسه محمد مرسى فى هذه الفترة وكان مثار إعجاب الجميع. منذ فترة من الوقت التقيته، لقد أصبح كهلاً، وهو الذى ظل شابا طيلة السنوات الماضية، وعندما قلت له «انت عجزت يا دكتور» قال لى منذ أن رحلت «ليلى»، وكان يقصد زوجته، لم أعد أتذوق للحياة طمعا، ثم أشاح بيده وكأنه ينتظر موعدا للرحيل واللقاء. وكان الموعد الجمعة الماضية، ومن مسجد الحمد بالمقطم إلى جوار منزله، حملنا د. رفعت السعيد على أكتافنا لنودعه إلى الدار الآخرة، بينما ظلت صورته الأولى التى خلدت فى ذهنى منذ عام 76 خالدة، بعطائه، ومواقفه، وانسانيته، وهى تلك الملحمة التى جسدها فى مؤلفه الضخم «مجرد ذكريات».