حيث تركن الكثرة الغالبة إلي دفء الجماعة.. بحثًا عن قوة زائفة.. وأمان كالخوف.. ثمة علي الجانب المقابل أولئك 'الخروجيون' الذين يصرون علي حماية كياناتهم الفردية.. شعارهم: 'أن يكون الركب دليلي ذلك هو الضلال بعينه' كما قال الدكتور شكري عياد.. وكثيرًا ما يصدّق المستقبل حدوسهم الملهمة، فينجون.. فيما تغرق السفن التي قفزوا منها مبكرًا. ولكن الخروج من جماعات الإسلام السياسي، ليس نهاية المطاف.. بل هو مبتداه.. حيث ينتظرهم الجهاد الأكبر.. الشق الأخطر من المهمة.. وهو الدور التنويري التوعويّ الذي ينهضون به، ليجنبوا غيرهم ما وقعوا فيه.. حيث يعرضون تجاربهم الخصيبة.. والأسباب التي حدت بهم إلي ذلك الخروج.. ورصد وتوثيق الانحرافات الفكرية والسلوكية التي انزلقت إليها تلك الجماعات.. وفي مقدمة تلك الانحرافات التشدد والجمود الفكريّ، الذي يقود، حتمًا، إلي انتهاج العنف لإحداث التغيير الذي تنشده. والأستاذ مختار نوح، المحامي، والوجه البارز في الحركة الإسلامية المعاصرة، واحد من أهم المنشقين عن جماعة 'الإخوان المسلمين'.. وأيا ما كانت الأسباب التي دفعت به إلي الخروج عن النسق الفكريّ والتنظيمي للإخوان، فإنه يبدو أن قضية العنف قد شغلت تفكيره.. فقرر أن يوليها عنايته ويدرسها دراسة مستفيضة شاملة.. فكان كتابه الضخم 'موسوعة العنف في الحركات الإسلامية المسلحة 50 عامًا من الدم'، الصادر عن دار 'سما' للنشر والتوزيع، يناير 2014م. حدد 'نوح' الإطار الزمني لموسوعته بداية من سبعينيات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1974، ونهاية بسقوط الإخوان المسلمين عن سدة حكم مصر عام 2014م. وقد توقف الجزء الحالي من الموسوعة عند عملية اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1981م. جاءت 'موسوعة العنف في الحركات الإسلامية المسلحة' في توقيت بالغ الدقة والحرج.. فعنف جماعة الإخوان المسلمين، في سبيل استعادة الحكم الضائع عقب ثورة 30 يونية، بلغ أوج حدته وسعاره.. وكأن سياق العنف الذي اندلع مع إنشاء تلك الجماعة الإرهابية عام 1928، لم يكن ليهدأ إلا لكي يشتعل أواره من جديد!! ألقي الأستاذ مختار نوح، في هذا الجزء من موسوعته، الضوء علي ثلاث قضايا عنف كبري، زلزلت الثالث الأخير من القرن العشرين.. وعصفت بأمن المجتمع وأمانه.. وأزهقت الكثير من الأرواح البريئة.. وتوزعت تلك القضايا علي أبواب ثلاثة، شكلت جسد الكتاب، وانتهج مؤلفها لعرضها أسلوب الرواية التوثيقية، متصلة الحلقات.. مع شيء من القراءة الفاحصة للوقائع.. والتحليل النفسي لبعض الشخصيات القائدة والمؤثرة داخل تلك الجماعات. فأمّا القضية الأولي فهي قضية 'الفنية العسكرية 1974 أول محاولة انقلاب تحت مسمي الإسلاميّ في القرن العشرين' ومنفذ هذه العملية تنظيم إسلامي أسسه الفلسطيني 'د.صالح سرية' المنتمي إلي جماعة الإخوان المسلمين، والمشارك في محاولة اغتيال الملك حسين، ملك الأردن، ومحاولة اغتيال الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم. استهدف الدكتور صالح سرية من هذه العملية قلب نظام حكم الرئيس السادات 'فخطط لذلك وقرر أن يحتل 'مدرسة الفنية العسكرية' أو 'الكلية الفنية العسكرية' حيث يقوم بتصفية الجنود الذين يقومون بحراسة الكلية وبعدها يقوم باحتلالها وإلقاء القبض علي الرئيس أثناء ذهابه إلي اجتماع اللجنة المركزية ويعلن سقوط الدولة، ويتجه إلي الإذاعة ليعلن سقوط الدولة المصرية في يد تنظيم الجهاد الإسلاميّ'، تلك هي خطته التي حاول تنفيذها، ولم يحقق منها سوي قتل بعض النفوس البريئة من طلاب وحراس الكلية الفنية العسكرية. وأما القضية الثانية فهي القضية التي نفذها تنظيم 'التكفير والهجرة' أو 'جماعة المسلمين' بقيادة شكري مصطفي، تلميذ سيد قطب، ووارث فكره التكفيري، فتبني فكرة جاهلية المجتمع وكفره وأخذ يرددها بهوس فاق أستاذه سيد قطب نفسه!! خطط شكري مصطفي ومجموعته ونفذوا عملية خطف الشيخ محمد حسين الذهبي، وزير الأوقاف الأسبق، وقتله سنة 1977م، لا لشيء سوي أن الشيخ الذهبي اتهم هذه الجماعة بالضلال، وقامت وزارة الأوقاف في عهده بطبع كتاب ضد هذه الجماعة، وأطلق الكتاب اسم 'الخوارج' علي أعضاء 'جماعة المسلمين' أو 'التفكير والهجرة'. القضية الثالثة، والأخيرة، في 'موسوعة العنف' هي ما أطلق عليها 'قضية الجهاد الكبري'، التي اغتيل فيها الرئيس محمد أنور السادات عام 1981. انتقد مختار نوح في موسوعته ما أسماه 'السياسة الأمنية للدولة' في مواجهة الحركات الإسلامية، تارة لما تقوم به من طول اعتقال للعناصر الإجرامية المنتمية إلي تلك الحركات، وتارة أخري لتراخيها وعدم يقظتها وقصورها المعلوماتي في مواجهة تلك الحركات التي تمارس القتل باسم الدين!! وفي تناوله للأحداث الكبري التي حوتها موسوعته، لم يكتف مختار نوح بسردها سردًا محايدًا، ولكنه حاول رد السلوكيات الإجرامية العنيفة للحركات الإسلامية المسلحة إلي مرجعياتها الفكرية التي تمثل وجهات نظر أصحابها، وخلاصات تأملاتهم في قضايا الجهاد في الفكر الإسلاميّ، وذكر من تلك المرجعيات ثلاثة كتيبات هي: 'رسالة الإيمان' للدكتور صالح سرية و'الفريضة الغائبة' لمحمد عبد السلام فرج، ويقصد بالفريضة الغائبة هنا 'الجهاد'، وكتاب 'حكم قتال الطائفة الممتنعة' الذي ألفه أعضاء الجماعة الإسلامية، والمقصود بالطائفة الممتنعة، أي الطائفة التي تمتنع عن تطبيق الشريعة الإسلامية وهم الحكام، حسب أفهامهم. والموسوعة تزخر، فوق ذلك، بالشهادات الحية، والوثائق التاريخية والأسماء الحقيقية لأبطال وقائع العنف المذكورة.. ولكن السؤال الذي لم يجد له المطلع علي الموسوعة جوابًا شافيًا هو: لماذا بدأ مختار نوح موسوعته بعام 1974، أي بقضية 'الفنية العسكرية'؟! ففي تصوري تطمح الموسوعة إلي تقديم مسح شامل لأحداث عنف الحركات الإسلامية في القرن العشرين، فلماذا تجاهل مؤلفها، عامدًا، التأريخ التوثيقي لجرائم جماعة الإخوان المسلمين منذ إنشائها في 1928، إلي عام 1974؟ ولماذا الدفاع عن الإخوان المسلمين باستمرار في ثنايا الموسوعة؟ أهو الانحياز؟ أم التقرب إلي الإخوان وحفاظًا علي بقايا من ولاء قديم؟ هل آثر الأستاذ مختار نوح السلامة بعدم تعرضه لجرائم الإخوان الثابتة الموثقة التي تغصّ بها كتب التاريخ الحديث، والتي تؤكد إيثارها نهج العنف في حل مشكلاتها مع الدولة، ورفع السلاح في وجهها ووجه المجتمع مع الإنكار الدائم لذلك.. بل وقلب الحقائق بنسبة كل جرائمهم إلي الضحايا أنفسهم أو إلي الدوائر المقربة منهم والموالية لهم؟! ننتظر من مختار نوح في بقية أجزاء 'موسوعة العنف في الحركات الإسلامية المسلحة'، أن يقدم لنا تأريخيًا توثيقيًا لكل جرائم العنف التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين من 1928 إلي 2014، وأن يقدم تحليلاً يكشف عن أصول الخطاب التكفيري في فكر الإخوان المسلمين ونتاجهم.. ويكشف عن الأطر المرجعية النظرية لهذا العنف الجهنمي الذي تمارسه جماعة الإخوان بوصفها الجماعة الأم لكل الحركات الإسلامية المسلحة في القرن العشرين.. فهل يفعل؟!