تلفني حالة من الذهول وأنا أري الشيخ محمدبن راشد آل مكتوم يقوم من مقعده، يتقدم عدة خطوات في اتجاه المسرح، يرفع موبايله الخاص ليلتقط لنا صورة بنفسه! »أمريكا بحاجة إلي زعيم مثل رئيسة وزراء نيوزيلاندا» تصدر هذا العنوان الصفحة الأولي من جريدة نيويورك تايمز الأمريكية، المناهضة لسياسات ترامب، تعبيرا عن إعجاب الشعب الأمريكي بمواقف رئيسة الوزراء النيوزيلاندية المتتالية منذ وقوع الحادث الإرهابي الوحشي يوم الجمعة 15 مارس 2019 وحتي الآن. ليست أمريكا وحدها التي انبهرت بذكاء وحكمة رئيسة الوزراء، بل العالم كله. في أسبوع واحد فقط استطاعت أن تصنع أسطورتها الخاصة وتتربع علي عرش القلوب. تعاطفها مع أسر الضحايا، زيارتها لهم في منازلهم لتقديم واجب العزاء، تخصيص يوم الجمعة من كل أسبوع لترتدي فيه النساء النيوزيلانديات الحجاب تضامنا مع ضحايا الإرهاب، وانتصارا لحرية العقيدة، واحترام الاختلاف. تصدر أكبر الجرائد في نيوزيلاندا لمانشيت من كلمة واحدة مكتوبة باللغة العربية »سلام» واحتشاد الآلاف يوم الجمعة الماضي للمشاركة في صلاة الجمعة مع المسلمين في ساحة كبيرة أمام المسجد الذي شهد المذبحة. إشادة الكثيرين في جميع أنحاء العالم برئيسة الحكومة النيوزيلاندية جاسيندا أرديرن، بعد موقفها القوي والمتعاطف مع المسلمين ضحايا هجوم مسجدي كرايست شيرش الإرهابي، الذي راح ضحيته حوالي 50 شخصًا وأصيب العشرات، دفعهم إلي اطلاق استفتاء شامل للمطالبة بترشيح أرديرن لجائزة نوبل للسلام، وعرض استفتاء علي موقع »hange.org، بدعم من الشاعر الفرنسي الدكتور ترابلي، لتحصل علي أكثر من 3000 توقيع بينما يحتوي موقع فرنسي آخر علي أكثر من 1000 توقيع. وكتب الموقع الفرنسي: »في أعقاب الأحداث المأساوية في كرايست شيرش والاستجابة السريعة والسلمية لرئيسة وزراء نيوزيلاندا جاسيندا أرديرن، نود أن نقترحها لتكون مرشحة لجائزة نوبل للسلام القادمة». ولكن قبل وصولها إلي هذا المنصب، لتكون أصغر رئيسة حكومة في العالم، وثالث امرأة تتولي المنصب في بلدها، كان لدي أرديرن مسيرة مهنية مليئة بالمفاجآت، فقبل أن تصبح نائبة في حزب العمال عام 2014، كانت معروفة باسم دي جي جاسيندا أرديرن. لقد دخلت هذه المرأة التاريخ بموقفها الإنساني العظيم الذي استطاعت من خلاله أن تمتص غضب المسلمين ليس في نيوزيلاندا وحدها، ولكن في العالم كله، ونجحت في حقن الدماء التي كان من الممكن أن تسيل أنهارا لو اشتعلت الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في تلك البلدة الهادئة. واستطاعت أن تبرهن علي أن الحب والمشاعر الإنسانية الخالصة قادرة علي صنع المستحيل. إنها- حقًا - امرأة العام بلا منافس. بينما يتابع الناس بقلق المعلومات التي تبثها وسائل الإعلام عن القاتل اليميني المتطرف وداوفعه لارتكاب تلك المجزرة الوحشية، يخرج »أنينج» السيناتور الأسترالي اليميني المتطرف ليدلي بتصريحات عنصرية معادية للمسلمين، يحملهم أسباب ذلك العنف المضاد لعنفهم تجاه المسيحيين والأديان الأخري. لا ينتهي المشهد عند هذا، بل يتصاعد الحدث ويفاجأ الحضور بالشاب الأسترالي الصغير »كونولي» 17 عاماً، يلقي ببيضة علي رأس السيناتور! يشتعل الموقف وينقض حرس السيناتور علي الشاب الصغير ويشارك في الضرب السيناتور نفسه بغضب شديد وعدوانية قاسية. يتم القبض علي الشاب الصغير، ثم يطلق سراحه بعد ساعات بكفالة مالية. »كونولي» الشجاع تنقلب الدنيا رأسا علي عقب تضامنا مع الشاب البطل الذي تصدي لخطاب الكراهية الذي كان يبثه السيناتور في عقول مريديه كالسم القاتل، وأدلي بها عقب الهجوم الإرهابي علي المصلين في مسجد مدينة كرايست شيرش النيوزيلاندية. قال كونولي: إن »المسلمين ليسوا إرهابيين وإن الإرهاب ليس له دين». ونشرت بروير تحديثًا للصفحة تشير فيه إلي أن كونولي أعرب عن التزامه بإرسال غالبية الأموال من حصيلة التبرعات (30 ألف دولار أسترالي) إلي ضحايا هجوم كرايست شيرش الإرهابي، بعدما كانت حملة جمع التبرعات مخصصة في بادئ الأمر لمساعدة كونولي علي دفع رسوم قضائية. في أقل من يومين تم جمع أكثر من مليون توقيع للمطالبة بإقالة السيناتور المتعصب، وهو رقم قياسي في الموقع. وكتبت كيت عن العريضة: إن سيناتور أنينج »ليس له مكان في حكومة بلدنا الديمقراطي والمتعدد الثقافات». برافو كونولي. صناع الأمل للعام الثالث علي التوالي يطلق صانع الأمل الحقيقي في الوطن العربي سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم النسخة الثالثة من مبادرته الأكبر والأهم علي مستوي العالم العربي »صناع الأمل»، تبحث المبادرة عن الأشخاص الذين يشغفهم فعل الخير، يعشقونه، يتنفسونه، ويسعدهم رفع الألم وتخفيف المعاناة عن بشر مثلهم من الفقراء، المقهورين، الذين يعيشون ظروفًا صعبة علي أثر الحروب أو النزاعات. وغيرهم ممن لا ظهر لهم ولا سند. »صناعة الأمل هي صناعة الحياة» هكذا عبر الشيخ محمد بن راشد عن فكرته، ولذلك يجب أن ندعم كل صانع أمل ونقف وراءه ليحقق الأهداف النبيلة التي نذر حياته من أجلها. وقد أصبحت جائزة »صناع الأمل» هي أكبر جائزة عربية تحتفي بأصحاب الرسالات النبيلة والقلوب المحبة للخير، والبشر الذين تجاوزوا دائرة ال »أنا» إلي فضاء أرحب يسعون فيه إلي ترك بصمة مضيئة في حياة الآخرين. تسعدهم ابتسامة في عيون طفل، وتشحنهم دعوة من قلب أم هدها الحزن بعدما فرج أحدهم كربتها وأضاء في حياتها ضوء الأمل. ليلة الوهج مازلت أذكر تفاصيل تلك الليلة كأنها أمس، أقف علي المسرح مأخوذة بجلال اللحظة وهيبتها. تغمرني مشاعر عجيبة هي مزيج من الفخر والسعادة، الرضا والإحساس بالإنصاف الإلهي، تلفني هالة من الذهول وأنا أري الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يقوم من مقعده، يتقدم عدة خطوات في اتجاه المسرح، يرفع موبايله الخاص ليلتقط صورة لنا بنفسه! يا الله.. المسرح كامل العدد، ثلاثة آلاف متفرج يملأون المقاعد، علي وجوههم ترقب ولهفة لمتابعة الفصل الأخير والمثير من مبادرة صناع الأمل، إعلان النتيجة وتتويج الفائزين باللقب الرفيع »صانع الأمل». أعيش لحظة مبهرة، مضيئة في حياتي، أنا الآن علي منصة التتويج في حفل رائع بمسرح مدينة دبي للاستوديوهات، أشاهد قبل دعوتي للصعود إلي المسرح فيلمًا وثائقيًا قصيرًا جدًا ومكثفًا عن رحلتي الطويلة مع السجينات وأطفالهن، تلك المأساة الإنسانية التي حركتني منذ أكثر من عشرين سنة، ودفعتني لفعل شيء من أجلهم. تلك اللحظة الفارقة في حياتي التي جعلتني صاحبة قضية ورسالة أحملها في قلبي وعقلي ووجداني أينما حللت. تدمع عيناي، ويغمرني الشجن وأنا أسترجع لأول مرة مشوارًا طويلًا من العطاء، الكفاح، والحماس في الدفاع عن هؤلاء الذين لا صوت لهم ولا ظهر. خطفتني عيون الأطفال المسجونة منذ اللحظة الأولي التي رأيتهم فيها، حفرت ملامح وجوههم الناطقة بالمأساة نفقًا من الأحزان في قلبي. حركتني لفعل شيء من أجلهم. يتوقف الفيلم القصير عند محطة ثانية، محورية في مشواري الطويل مع السجينات وأطفالهن، اكتشف قضية مأساوية أخري قابعة خلف القضبان اسمتها »سجينات الفقر» وعرفت فيما بعد ب »الغارمات» كنت أول من سلط الضوء علي تلك القضية، وبفضل الله وعونه أصبحت الآن وبعد 12 عامًا من كشفها الفكرة الإنسانية رقم واحد التي تفاعل معها المجتمع كله، ومحور اهتمام الرئيس السيسي شخصيًا. تأتي لحظة النطق باسم الفائز بجائزة صناع الأمل، نقف نحن الخمسة الفائزين بالتصفية النهائية في المسابقة الدقيقة التي نمر خلالها بعدة مراحل وتصفيات صعبة، الخمسة هم الفائزون بالنسبة للجنة التحكيم المكونة من السيدة عهود الرومي وزيرة السعادة وتركي الدخيل المدير السابق لقناة العربية والفنان حسين الجسمي، الحكم الآن هو تصويت حضور الحفل الذين رأوا فيديوهات تحكي مشوار كل منا، واستمعوا في دقيقة علي رد كل متسابق علي سؤال لجنة التحكيم علي المسرح. الترقب علي الوجوه، ضربات القلب تتسارع، جو يملؤه الإثارة، وتطفو فوق أجوائه مشاعر الإنسانية في أعلي صورها، الكل يتمني لأي زميل الفوز، فكلنا صناع أمل حقيقيون، يشدو بتلك الجملة الملهمة في الحفل فنان العرب المحبوب حسين الجسمي، نحن صناع الأمل نعمل بقلوبنا ولا ننتظر أجرا أو شكرا، ترتجف قلوبنا لمبادرات غيرنا، كما لمبادرتنا، إنه التنافس في الخير والعطاء، له مذاق مختلف وروح محلقة خلاقة. يقف سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وسطنا، يأتي الكارت الذي يحمل اسم المتسابق الذي حصل علي أعلي تصويت من جمهور الحضور، يفتح المذيع نيشان الظرف، ويعلن اسم: محمود وحيد من مصر حامل اللقب. تضج القاعة بالتصفيق، يرقص قلبي فرحًا من أجل محمود الشاب المصري الذي لم يحتمل منظر مشرد مسن ينام في الشارع، رث الملبس، لا يأكل ولا يغتسل، غزته الأمراض بعدما هجرته عائلته، أو هام في الأرض بلا هدي. أخذ أول مشرد وكان في حالة مزرية، شبه ميت، حمله بمساعدة أصدقاء له دعاهم لمشاركته هذا العمل الإنساني، وطاف به علي عدة مستشفيات رفضت استقباله ومن هنا صارت قضية المشردين من كبار السن بلا مأوي هي قضية حياته، أسس مؤسسة »معا» لإنقاذ إنسان منذ ثلاث سنوات، وأقام دارًا لرعاية هؤلاء الذين لا يسأل عنهم أحد حتي أقرب المقربين. فور تسلم محمود لدرع الجائزة يعلن سمو الشيخ بن راشد أن المبادرات الخمس كلها فائزة، تضج القاعة بالتصفيق ويطير قلبي فرحًا، أتمتم بالشكر والحمد لله العظيم الذي لا يضيع أجر من أحسن عمله. أفرح جدًا لفوز فارس علي من السودان، صاحب مبادرة التعليم مقابل الغذاء، والذي استطاع أن يعيد أطفال المدارس الفقراء في قري السودان بعدما اكتشف أن التسرب من التعليم كان سببه الجوع. بدأ بعشرين ساندويتش يمنحها للأطفال ليعودوا إلي المدرسة ووصل الآن إلي 40 مليون ساندويتش في جميع قري السودان. مبادرته رائعة تربط بين غذاء الجسد وغذاء العقل بطريقة فعالة وناجحة. كذلك أفرح بفوز منال مسلم من الكويت وسهام جرجيس من العراق لكل منهما مبادرة رائدة، مؤثرة وناجحة في بلديهما. فريق مبادرة صناع الأمل الذي عمل معنا منذ البداية للنهاية يعطي المثل والقدوة في كيف تنجح الإنجازات الكبيرة. فريق يؤمن بالجدية والاتقان، التفاني والإخلاص. علي رأسه الأستاذ محمد عمران مدير مبادرات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الدينامو الذي يحرك فريق العمل بكل حماس وحب للنجاح والتميز. فخورة ببلدي مصر التي فازت منها ماما ماجي في 2017 ثم انتزعت مكانين بين الفائزين الخمسة الذين فازوا بالجائزة في 2018، محمود وحيد حامل اللقب وأنا.