الأمم التي لا تملك ولا تنتج قوتها، وغذاءها، وكساءها، ودواءها، وسلاحها، لا تملك أمرها، ولا إرادتها، ولا كلمتها، ولا عزتها، ولا كرامتها ، وكذلك شأن الأفراد أيضًا، وقد قالوا : أحسن إلي من شئت تكن أميره، واستغن عن من شئت تكن نظيره، واحتج إلي من شئت تكن أسيره، وقد علَّمنا ديننا الحنيف أن اليد العليا خير من اليد السفلي، واليد العليا هي المعطية المتصدقة، واليد السفلي هي الآخذة، يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلي، فاليد العليا هي المنفقة والسفلي هي السائلة). وعن عوف بن مالك الأشجعي (رضي الله عنه) قال: »كنا جلوسا عند رسول الله () تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ؟ وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله ؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله ، فعلام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية: ولا تسألوا الناس شيئا، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه»، وذلك اتقاء لذل المسألة وقبح السؤال. ويقول نبينا (): »لاتزال المسألة بأحدكم حتي يلقي الله تعالي وليس في وجهه مزعة لحم» (متفق عليه)، ويقول (صلي الله عليه وسلم): »من سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو فليستكثر» (صحيح مسلم)، ويقول (): »من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». وعن أبي بشر قبيصة بن المخارق (رضي الله عنه) قال: »تحملت حمالة فأتيت رسول الله () أسأله فيها فقال: أقم حتي تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتي يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتي يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتي يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا». وعن حكيم بن حزام (رضي الله عنه) قال: »سألت رسول الله () فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلي، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئا حتي أفارق الدنيا، فكان أبو بكر (رضي الله عنه) يدعو حكيما إلي العطاء فيأبي أن يقبله منه، ثم إن عمر (رضي الله عنه) دعاه ليعطيه فأبي أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين علي حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبي أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله () حتي توفي». علي أن أمر التعفف لا يمكن أن يتحقق لا للأفراد ولا للأمم إلا بأمرين: زيادة الإنتاج وترشيد الاستهلاك، وقد جمع القرآن الكريم بينهما لحل المشكلات الاقتصادية، حيث يقول الحق سبحانه وتعالي علي لسان سيدنا يوسف (عليه السلام) »قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ» ، فالأمر قائم علي زيادة الإنتاج المعبر عنها بقوله تعالي: »تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا» ، والادخار وترشيد الاستهلاك المعبر عنهما بقوله تعالي: »فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ»، مع ملاحظة أن القرآن الكريم قد عبر بقوله تعالي »إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ» ولم يقل إلا ما تأكلون، حتي لا تذهب النفس في مأكلها - مطعمًا ومشربًا - كل مذهب أو تسرف في ذلك إسرافًا، حيث يقول نبينا (): »ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».