لأديبنا العظيم الراحل يوسف إدريس كلمات كتبها بنفسه في مقدمة النسخة المطبوعة من مسرحيته الرائعة »الفرافير»، فبينما هو يشرح صفات الممثل الذي يفضله للعب دور »فرفور»، إذا به يكتب نصا بديعا في وصف هؤلاء »الفرافير» الذين لاغني عنهم في حيواتنا إذ يلوننها بالبهجة ويفيضون بالضحك والسخرية من النفس والناس والأوضاع السائدة، من دون أن يكفوا لحظة واحدة عن إرسال إشارات بالغة القوة تشي بذكائهم الحاد فضلا عن امتلاكهم عمق وحكمة تكاد تصعد بهم إلي أعلي درجات التفلسف. .. يقول يوسف إدريس: ».. الفرافير موجودون ولكنهم قليلون، من بين كل ألف أو بضعة آلاف قد تجد فرفورا، فلابد أنك التقيت يوما بهذا الإنسان الذي لا يكف لسانه عن سلخ الأوضاع والآخرين والأصدقاء والأعداء ونفسه وكل شيء، الناس تضحك وتأخذه علي أنه مجرد مضحك، ولكن هذا الفرفور نفسه، هل هو مجرد إنسان همه أن يضحك الآخرين؟ أنه قطعا يجد متعة في إضحاك الناس، ولكن لماذا هو وحده القادر علي هذا؟ ألمجرد كونه سريع البديهة وقادرا علي اصطياد موضع النكتة أو السخرية؟.. ولماذا هو الذي يجد في هذا الحدث أو ذاك ما يستطيع أن يسخر منه ولا تجد أنت؟ لابد أذن أنه إنسان غير عادي.. هو إنسان له وجهة نظر قد تٌضحك لفرط غرابتها ولكن أثرها أبدا لا يزول، فهي تهدم وتبني في أنفس الناس بينما هم مشغولون بالضحك. فرفور ليس نبيا ولا رسولا، أنه فقط فرفور، ولكني أتصوره دائما خارقا للعادة، وكلما لمع بريق عينيه وتأهب للكلام أحسست أن حدثا خطيرا يوشك أن يقع. فرفور ذلك الجسد الضئيل المحشورة فيه طاقة نشاط هائلة.. أريده في كل مكان علي المسرح بحيث لا تستطيع أن تضبط انتقالاته.. لابد أن يشعر الجمهور أنه ليس أمام ممثل ذي قدرات خارقة.. بل أريد من هذا الممثل أن ينفض عن ذهنه كل أمجاد هاملت وعطيل وقيصر وأخلاقياتهم الشاعرية وشجاعتهم التي يجيدون الحديث عنها، وأفكارهم التي تأتي مرتبة منمقة أريده أن ينتزع من الناس إحساسا بأنه غير عادي رغما عنهم.. أريده أن يبهرهم وهو يضحكهم ثم يضحك عليهم حين يٌبهرون...أريده يفهم أن الجمهور المحتشد أمامه، أناس جاءوا متفرقين متعبين متسخي القلوب والأرواح وأنه هو وحده الذي سيتمكن من غسل أرواحهم جميعا، بالطاقة الهائلة المشعة منه. لابد أن تخرج السخرية لا من فمه ولكن من صدره، من قلبه، من أعماقه، فهو لن يكون المعبر عن نفسه وحدها، وإنما عن نفوس الجماهير المحتشدة لتراه.. ينطق فيحسون جميعا أن الصوت ليس صوته وإنما صوتهم هم، لأن فيه ملامحهم وخصالهم، وصبرهم الطويل الذي لا مبرر له، وسخطهم وطريقتهم في إبداء السخط. باختصار، أريده مزيجا من البطل الأرضي والسماوي، الجني والآدمي.. هل أستطيع أن أجد (ممثلا) فرفورا يحقق هذه الصورة؟!...» هكذا ختم يوسف إدريس كلامه.. فما أحوجنا الآن أن ننظر حولنا ونبحث عن تلك »الفرافير» الذكية اللطيفة المخلصة ونحميها من أي عسف ونصغي إليها (ونحن نبتسم) بكل الجد والاهتمام.