قبل أكثر قليلا من ربع قرن وتحديدا في العام 1993 نشرت مجلة »عِلم»الأمريكية science magazine بحثا أجراه فريق من علماء النفس بجامعة كاليفورنيا علي عينة من التلاميذ انتهي إلي أن الفتية الصغار الذين تعرضوا لسماع الموسيقي الكلاسيكية لمدة محدودة قبل دخول الامتحانات حققوا نتائج أفضل من زملائهم الذين لم يسمعوا شيئا منها، ورغم أن هذا البحث لم يكن الأول الذي يثبت التأثير الإيجابي للموسيقي الراقية علي البشر (بل وكآئنات حية أخري) نفسيا وبدنيا وعلي الأداء العقلي كذلك، ومع أن نتائجه في عمومها جاءت متطابقة مع ملاحظات واستنتاجات توصلت إليها فرق بحث عديدة أنجزت منذ مطلع القرن الماضي مئات الاختبارات والأبحاث العلمية في هذا المجال، إلا أن الجديد الذي أتي به فريق جامعة كاليفورنيا هو أن أثر النغم الراقي في النفس والعقل ليس بدرجة واحدة ولكنه متفاوت في القوة وأن الموسيقي الكلاسيكية بالذات هي الأسمي، بل لقد ميزت نتائج بحثهم مبدعا بعينه من مبدعي ذلك النوع الموسيقي وأظهرت أن لمقطوعاته وأعماله طاقة أكبر علي تحفيز القدرات العقلية للتلامذه، هذا المبدع هو النمساوي العبقري فولفجانج أماديوس موتسارت (1756 1791) الذي صارت موسيقاه من بعد نشر البحث المذكور وكأنها وصفة سحرية للذكاء والنباهة حتي أن أعدادا متزايدة من المدارس الأمريكية اعتمدتها كوسيلة مضمونة لرفع نتائج الاختبارات التعليمية لتلاميذها، كما شاع في الأوساط العلمية والتربوية مصطلح »تأثير موتسارت» Mozart effect، للدلالة علي فعل الموسيقي الإيجابي السحري في الأذهان فضلا عن الروح والوجدان. غير أن بعض التشكيك في مدي دقة هذا المصطلح أتي من عاصمة موطن موتسارت نفسه عندما أعلن قبل سنوات قليلة، باحثون في كلية علم النفس بجامعة فيينا أنه لا دليل علميا موثوقا يؤكد أن إنتاج مواطنهم الفذ »موتسارت»يتميز أو يزيد في تأثيره عن أعمال الموسيقيين الكلاسيكيين العظام الآخرين، وقال البروفيسور جاكوب بيتشينج المشرف علي البحث الذي أجرته الكلية في هذا الموضوع أن »الذين استمعوا لمقطوعات موسيقية من أعمال موتسارت أو باخ أو هايدن وغيرهم تمتعوا بأحاسيس وتأثيرات (إيجابية) متقاربة ومتشابهة جدا بما ينفي أي أساس واقعي لاعتبار موسيقي واحد منهم بالذات تستأثر بوضع خاص.. باختصار ليس صحيحا أن التأثير لموتسارت وحده، التأثير للموسيقي (الراقية) فحسب»مهما كان اسم مبدعها.. طيب.. لماذا أحكي هذه الحكاية الآن وما المناسبة؟ الحقيقة أن المناسبة (أو الظاهرة) موجودة ومتفاقمة باضطراد من حقب طويلة ربما تعود إلي سبعينيات القرن الماضي، فأما كنه هذه الظاهرة فتلخصها كلمة واحدة هي »القبح»أو بالأحري »أيديولوجية تمجيد القبح»والعمل بإخلاص علي إشاعته وتمتين دعائمه وأسبابه ومن ثم تمكين الجلافة والبؤس من الإمساك بتلابيب المجتمع علي نحو عابر لجغرافيا الوطن وبناه وطبقاته وفئاته الاجتماعية المختلفة، بوسائل وسياسات شتي منها تعمد إهمال الفنون الراقية وفي طليعتها الموسيقي الكلاسيكيةوحصارها والتعامل معها باحتقار شديد، حتي أن وزيرا للثقافة سابق (لاحظ، وزير ثقافة !!) خاطب في يوم ما قائد أوركسترا مصري شاب وموهوب بلهجة ساخرة قائلا له: يا أخي المزيكا بتاعتكم دي عبارة عن شوية زعيق ورزع وخبط ووجع دماغ ما لوش أي لزمة!!!.. وقد كتبت هنا، قبل أسابيع قليلة، عما آل إليه حال إذاعة البرنامج الموسيقي من تأثير الإهمال والحصار وفقر الإمكانيات الذي تعاني منه ويكابده العاملون فيها علي رغم إخلاصهم وتميزهم المهني وثقافتهم الرفيعة.. وقد ضاق المجال وتآكلت المساحة فلن أتمكن من عرض تفاصيل مأساة حقيقية تضرب بقسوة واحدة من أثمن وأهم ما نملكه في ترسانة قوتنا الناعمة، وأقصد فرق دار الأوبرا المصرية خصوصا فرقة »أوركسترا القاهرة السيمفوني»الذي يعاني شحا مروعا في الإمكانيات المادية والمخصصات المالية لدرجة جعلته علي وشك التصفية بعدما أدي الانخفاض المخجل في الأجور، إلي هجرة أعداد ضخمة من أفضل وأحسن عازفيه. وبعد.. هل مازلنا لانعرف من أين يأتي وفي أية بيئة ترعرعت تلك الوحوش الإرهابية المشوهة عقلا وروحا ومنزوعة الإنسانية والضمير، التي تركتب أحط الجرائم وأشدها خسة وبشاعة ؟!