في نهاية سطور الأسبوع الماضي أشرت إلي الخلاف الكبير (نسبيا) بين الصديقين المبدعين العظيمين، المفكر والأديب الألماني الكبير »جوته» وصديقه الموسيقي الهائل ذائع الصيت »بيتهوفن»، حول مقدار التزام كل منهما، علي الصعيد العملي والسلوكي، بقيمة الحرية، وقد تجلي هذا الخلاف (أو بالأحري »الاختلاف») في حكاية طريفة كانا بطليها، لكن أصلها وخلفيتها تعود إلي اشتراكهما معا قبل هذه الحكاية التي سأرويها لك حالا بزمن طويل في التأييد والحماس الشديدين للثورة الفرنسية، ثم حب وتقدير كليهما لأبرز رجالها »نابليون بونابرت». بيد أن هذا الحب لنابليون لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما أصيب الأديب والشاعر الكبير ورفيقه الموسيقي العبقري بصدمة وخيبة أمل قاسية في الجنرال الذي لطالما داعبت فتوحاته الأوروبية تحت راية الثورة وشعاراتها الراقية أحلامهما بأن تسطع شمس الحرية والمساواة ويعبر ضوؤها حدود فرنسا فيبدد ظلام التأخر والاستبداد والرجعية المخيم وقتها علي أغلب بقاع القارة العجوز. لقد بدأ حماس جوته وبيتهوفن لنابليون يخفت ويتراجع رويدا رويدا، خصوصا بعدما عين الجنرال المحبوب نفسه إمبراطورا وتصرف كطاغية.. هنا فقد الاثنان كل التقدير والحب الذي منحاه للرجل، لكنهما اختلفا في التعبير عن الموقف الجديد من بطلهما السابق، فبينما كان الموسيقي العظيم أكثر حدة وصخبا في التعبير عن غضبه لدرجة أنه مزق الورقة الافتتاحية لسيمفونية »إيرويكا» التي ألفها وفي نيته أن يهديها لنابليون وقام بتغيير اسمها إلي »السيمفونية الثالثة»، فإن جوته بدا أكثر ليونة ومهادنة في التعبير السلوكي عن غضبه، وقد ذهب في ذلك بعيدا جدا، إذ حينما احتلت جيوش الجنرال الفرنسي بروسيا لم يجد الشاعر والأديب الألماني العظيم غضاضة من اللقاء بنابليون مرتين، وفي الأولي عبر الجنرال عن إعجابه الشديد بجوته وقال عنه مقولته الشهيرة »إنه إنسان بحق». لكني الآن أنقل لك تفاصيل الحكاية الطريفة التي وعدتك بها، والتي تكشف الاختلاف السلوكي القوي بين جوته وبيتهوفن في التعبير عن اعتقادهما الراسخ بأهمية الحرية، وسوف أنقل هذه الحكاية في السطور التالية كما كتبها بيتهوفن بنفسه في مقطع من مذكراته، إذ قال بالنص: »..ما أروع أن يشعر الإنسان ببعض العظمة والاعتداد بالنفس، بالأمس وبينما كنا (هو وجوته) في الطريق للبيت، قابلنا أفراد العائلة الإمبراطورية في الطريق.. رأيناهم قادمين نحونا، وعندما اقتربوا منا سحب جوته يده من يدي لكي يتنحي عن الطريق.. حاولت بكل وسعي ثنيه وإقناعه بمواصلة السير، لكن من دون جدوي، وبينما أنا أمشي قبالة الجمع، كنت أضغط قبعتي علي رأسي بنزق وأُحكِم إغلاق أزرار سترتي وأثني يدي خلف ظهري.. ولاحظت أن الأمراء وكبار الحاشية والأعيان أفسحوا لي جزءا من الطريق.. الأرشيدوق رودولف رفع قبعته في اتجاهي محييا، ورفعت الإمبراطورة (زوجة نابليون) يدها لي بالسلام.. إذن فهؤلاء الناس العظام يعرفونني، هكذا حدثت نفسي.. لكنها كانت لحظة من أغرب اللحظات وأكثرها طرافة، فقد رأيت الموكب يمر من أمام جوته بهدوء ولا مبالاة، وكان صديقي مازال واقفا هناك علي جانب الطريق متكوما علي نفسه ونازعا قبعته وخافضا رأسه إلي الأرض بأقصي ما يستطيع»!! انتهت الحكاية.