تعودت مجلة " آخر ساعة " في خمسينيات القرن الماضي علي تقديم عرض لكتاب جديد كل أسبوع يصدر حديثا في اوروبا، وفي مارس من عام 1951 قدمت المجلة تلخيصا لكتاب صدر في ذات نفس الشهر في لندن عن الفيلسوف الايرلندي الساخر جورج برنارد شو الذي رفض استلام جائزة نوبل لعدم اعترافه بها، أهمية الكتاب أنه من تأليف سكرتيرته " مس باتش " التي ظلت تعمل معه ثلاثين عاما متواصلة، وعندما اخبرته انها لا تحمل شهادة جامعية قال لها : " لو كنت من خريجات الجامعات لما صلحت لي.. إذ لا أمل في الحصول علي درجة علمية من"أكسفورد" في العلوم إلا إذا كان المرء متخلفا مئة عام، وفي التاريخ سبع مئة عام ". تنقلت " مس باتش " مع " برنارد شو" وزوجته من منزل إلي آخر،وكان وزوجه يقضيان آخر الأسبوع في منزلهما بالريف، والقصة التي يتناقلها الناس عن سبب اختيارهما لهذا المنزل انهما صادفا مقبرة في طريقهما خارج لندن مكتوبا عليها :"ان صاحبتها ولدت في 1815 وماتت عام 1895.. حياتها كانت قصيرة"، عندها صاح برنارد شو:"هذا هو المكان الذي يصلح لي". كان المنزل في قرية هادئة منعزلة عن العمران،كانت الأيام تمر بها في تشابه ممل وحين سألها " شو" قبل ان يؤول المنزل إلي الحكومة إذا ما كانت ترغب في الإقامة فيه بعد وفاته لم تقبل لأنها اعتادت حياة المدن. وتقول " مس باتش " : أثناء الغارات الألمانية في زمن الحرب الماضية كان شو يجلس إلي البيانو ويعزف موسيقي الأوبرات الإيطالية ويرافق العزف بالغناء.. سقطت قنبلة فأتلفت عددا من رواياته المعدة للتوزيع ولكنه كان قد أمّن عليها، فصرف له التعويض النقدي عنها. وكان إذا جلس للكتابة يكره الزائرين،علي مكتبه الحبر الأحمر، والدبابيس،والصمغ، وكان يكتب علي ورق مسطر أخضر لإراحة البصر، يستريح بعد الظهر، ويبدأ العمل في السادسة لمدة ساعة قبل العشاء، ويأوي إلي فراشه في الحادية عشرة، وعندما عاد لحياة العزوبية بعد وفاة زوجته كان يستأنف الكتابة والمطالعة والاستماع للراديو في غرفة الطعام ويذهب لفراشه قبل منتصف الليل. وأكدت " جان دارك " أول مسرحية كتبها عندما عملت لديه، واعتبرها النقاد أفضل مسرحياته، وحين سئل عن افضل اعماله قال إنه سوف يدلي برأيه في ذلك يوم القيامة!.. كان يحفظ عدد كلمات كل مسرحية، ولم يكن يسمح لإنسان أن ينقل "فاصلة" من موضعها، كان يصحح البروفات بنفسه، كانت زوجته تميل إلي السفر حول العالم وكان ينفر من ذلك ويود لو بقي في منزله لا يغادره، وكان إذ سافرمعها تأخذ قائمة بصور شتي ألوان الطعام النباتية التي يأكلها، كان نباتيا لا يأكل اللحم والطيروالسمك، ولا يدخن ولا يشرب الشاي أو القهوة أو الخمر، بينما كانت زوجته تأكل كل شيء، فإذا ركبا السفينة أو نزلا في فندق سلمت القائمة إلي إدارة المطعم لإعداد ألوان الطعام المناسبة له. وتقول أن أول لقاء بين " شو" والكولونيل " لورنس العرب " حين حضر لمتحف كمبردج لشراء رسم لبرنارد شو بريشة الرسام الإنجليزي الشهير "أغسطس جونش" الذي اطلق عليه " الفيلسوف النائم "،جلسا معا ثم اصبحا صديقين، ولم يمض وقت حتي بعث لورنس إلي " شو" بكتابه " أعمدة الحكمة السبعة "علي أمل أن يطلع عليه شو ويخبره برأيه، فارتاع شو في أول الأمر لضخامة الكتاب، لكنه اتم قراءته في ثلاثة أشهروأرسل ينصحه بحذف مقدمة الكتاب، واقترح عليه لورانس كتابة مسرحية تخلد الزعيم الايرلندي"كمنت"الذي شنقه الإنجليز بتهمة الخيانة العظمي، فأجابه " شو " بأن الثورة الايرلندية بمثابة " شجار في ركن من العالم "، وان " كيمنت" في نظره شبيها بزعماء العصابات في شيكاغو، واستلهم " شو " شخصية " الكولونيل لورانس " بتصرف في احدي مسرحياته. وتقول " مس باتش " أن " شو " عندما علم بوجود الزعيم الهندي " نهرو" في لندن ربيع عام 1949، دعاه إلي مقابلته في الصباح، مخالفا القاعدة التي سار عليها طوال حياته في استقبال الزوار في المساء.. ولما تقابلا طرقا موضوعات شتي: من الديانة الهندية إلي عدد من ثمار"المانجو".. التي يستطيع المرء ان يلتهمها.. وقال شو لنهرو إنه أعجب في زيارة له لمعبد"جين" في الهند حين وجد ان بعض الناس مازال يعبد الأوثان المجسمة علي شكل الحيوان فمن الذي جاء بها إلي الهند؟.. فأجاب نهرو بأن اللاجئين اليونان قد صنعوها كي يرمزوا بها إلي آلهتهم في بلادهم." وتقول أن الرسائل كانت ترسل إلي " شو " بالآلاف من جميع أنحاء العالم، فكان يترك الرسائل العادية لترد عليها، أما الخاصة فيكتبها بخطه وقت فراغه، وكان يعتقد بأنه لولا هذه الرسائل لأمكنه تأليف عشرين رواية أخري وكان يقول: " لو كانت هذه الرسائل في عصر شكسبير لقلّ إنتاجه كثيرا ! "، وكان لشو رأي في الأمريكان، لم يكن يكرههم، كان معجبا بروح التجديد فيهم، ومع ذلك كان يصرح بأن 90% من الأمريكان حمقي، وكان رواج رواياته في أمريكا يدرّ عليه مالا وفيرا، وأرسل له مديراحد المسارح الذي كان يربي الخنازير لحوم منها تعادل نصيبه من ارباح مسرحياته فكتب إليه يقول: " ألست تعلم أني نباتي؟! " دعا شو العالم الفذ " آينشتاين " إلي غداء بحضورعدد كبير من العظماء وقال له " شو" أنه "لخبط "العلوم الطبيعية، فردّ عليه آينشتاين : "وماذا يهم.. إن ذلك ليس من شغلك"، مع ان " شو " كان قد وصف آينشتاين بإنه عظيم بين عظماء، وإذا كان نابليون وأمثاله قد شيدوا إمبراطوريات، فان آينشتاين من طائفة شيدت عوالم دون ان تتلطخ أيديهم بدماء بشرية. ظل " شو " طوال حياته يتمتع بصحة جيدة، وذاكرة قوية حتي قارب التسعين فثقل سمعه قليلا، وظل نظره جيدا،يلبس النظارة عندما يقرأ فقط، أصيب بمرض الأنيميا وعولج منها، وهدوء نفسه كان من أسباب طول عمره، وكان يري ان إطعام الطلبة في المدارس لحوماً إسراف سخيف، وتحريض لهم علي الذبح وسفك الدماء. وتؤكد ايضا أن امورالدنيا البراقة لم يكن لها سحر عليه، فلم تفتنه الألقاب، ورفض "وسام الجدارة"، ولما عرضت عليه جائزة نوبل للآداب عام 1925 رفض استلام "الشيك " لأنه لا يعترف بالجائزة التي كفر بها صاحبها عن اختراعه لدمار البشرية وقال : ان قرّاءه وكتبه وجمهورمسرحياته قد كفلوا له النهوض بمطالبه، ورأي ان يخصص المبلغ لتوثيق الروابط الأدبية بين البلدين، كان صريحا في التحدث عن ملوك إنكلترا، فعندما جلس الملك جورج السادس علي عرش إنكلترا، اقترح أن تؤلف"جمعية للرفق بالشخصيات الملكية".. ولقد أيد زواج إدوارد الثامن من مسز سمبسون وعدّ هذا الزواج بمثابة"ضربة معلم"في الدبلوماسية. وانتقد الملك جورج الخامس، وقال انه دل علي ذوق متواضع حين ذهب لحضور حفلة سباق الخيل، وتخلف عن افتتاح المسرح التذكاري لشكسبير في سترافورد. وتختتم " مس باتش " كتابها بأن برنارد شو لم يقل كل ما يريد، وبعض الناس لم يكونوا ينظرون إليه علي أنه فيلسوف، أو مفكر، لكن ألدّ خصومه يعترفون له دائماً بالذكاء والعظمة، ويعترفون له بأنه سيد النشر الإنجليزي بغير منازع. وحين أحسّ بالموت، لم يكن آسفا علي جورج برنارد شو " الإنسان" الذي ملّ الحياة،ولكنه كان آسفا، لأن الوقت كان يلاحقه، ولم يترك لقلمه الفرصة ليقول ما كان يرغب في أن يقوله ! آخر ساعة - مارس 1951