في عام 1919، كنت في السابعة من عمري، وكنت وقتها طالبة في احدي مدارس البنات بطنطا، ورغم صغر سني، كنت ابرز تلميذة في المدرسة حتي لقد عهد إلي ناظر المدرسة برئاسة فرقة الاناشيد بالمدرسة. وذات يوم جاء احد المدرسين ووقف يخطب في الطالبات خطبة حماسية رائعة لم افهم معناها، ولكني وجدت نفسي مندفعة إلي التصفيق بشدة هاتفة وراء المدرس قائلة : عاشت مصر.. عاشت مصر. وبعدها خرجنا جميعا يتقدمنا الناظر والمدرسون، واخذنا نطوف بأنحاء المدينة ونحن نردد وراء الناظر هتافات قوية، والنساء في بيوتهن يزغردن، وانا لا أفهم ما يدور حولي شيئا. وعدت إلي البيت بعد انتهاء المظاهرة، ورحت أروي لأمي ما حدث.. فأغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول : لقد قامت الثورة في مصر ضد الإنجليز. ومصر التي كانت تعنيها أمي هي القاهرة.. أما الثورة، فقد أرادت أن تقرب معناها إلي ذهني، فامسكت ببضعة أطباق من الصيني وراحت تلقي بها علي الأرض بشدة فتتحطم شر محطم.. وهكذا أدركت بفهمي الصغير ماذا تعني كلمة الثورة ! وبعد أيام جاءنا ناظر المدرسة وطلب الينا أن نخرج من الفصول لنشترك في مظاهرة كبيرة نظمها طلبة الجامع الأحمدي في طنطا وخرجت مدرستنا إلي المظاهرة، وسرت في مقدمة الطالبات انشد نشيدا حماسيا.. حتي انضممنا إلي جموع كثيرة تصيح بأصوات قوية : - عاشت مصر.. عاشت مصر.. عاشت مصر. وسرنا في مقدمة المظاهرة الكبيرة، واخذت انشد النشيد الحماسي وزميلاتي يرددنه ورائي، وعندما وصلنا إلي شارع المديرية، وهو الشارع الرئيسي في طنطا، إذا بنا نسمع صوت طلقات الرصاص. وأسرع الرجال يحملوننا علي اكتافهم ويسرعون بنا بعيدا، بينما هجم الباقون علي العساكر الإنجليز الذين اطلقوا علينا الرصاص. وفي اليوم التالي كانت طنطا كلها في حالة حزن وحداد علي الشهداء الذين ماتوا في اليوم السابق برصاص الانجليز الغادر. ورأيت كل نساء الحي، بل كل امرأة في طنطا قابلتها وهي تبكي حزنا علي الشهداء الابرار. وتركت كل هذه المناظر في نفسي رواسب لعلها هي السبب في كراهيتي الشديدة للإنجليز منذ عرفت الحياة، فأنا لا أطيق ان أري أمامي انجليزيا.. حتي انني بكيت بشدة يوم اعلن في عام 1936 اننا عقدنا مع الإنجليز معاهدة صداقة وتعاون، فلا صداقة مع أعداء غدروا بنا وقتلوا برصاصهم رجالنا ونساءنا واطفالنا أمينة رزق الكواكب - 17 ديسمبر 1957