أظنهم قليلين هؤلاء الذين يعرفون أهمية وفضل هذه الإذاعة الرائعة الملقاة حاليا في زاوية النسيان (لكي لا أقول الإهمال)، إنها إذاعة البرنامج الموسيقي التي ظلت علي مدي أكثر من نصف قرن (انطلقت عبر الأثير في مايو من العام 1965) لا تكتفي ببث آيات من الجمال السمعي الراقي الكفيل بكنس نفايات البذاءة الصوتية التي تلوث آذان خلق الله وتخرب بقسوة ذائقتهم بل وأرواحهم أيضا، وإنما إضافة لذلك لعبت هذه الإذاعة ومازالت، دور الحارس الأمين علي واحد من أهم منجزات مسيرة الحضارة الإنسانية المتمثل في الموسيقي الراقية.. في رأيي لو يهمك أن تعرفه ليس هناك موسيقي تستحق اسمها ما لم تكن راقية ومفعمة بثراء جمالي وآداء إبداعي متقن، وعمق تعبيري يتعالي ويسمو بجملها اللحنية فوق العشوائية وركام التبسيط المخل الذي يحولها مجرد ضجيج بدائي ملحون (من اللحن) مثقل برتابة بذيئة... وانظر حولك من فضلك، أو بالأحري، تأمل في ما يهاجم ويقتحم الآن آذاننا بجلافة وعدوانية شنيعة. أكتب هذه السطور، ليس فقط لأحتفي كما يليق بواحدة من المنجزات الباقية لعصر كانت فيه الرغبة عارمة والإرادة قوية لإعطاء الناس، خصوصا ملح الأرض من البسطاء والفقراء في بلادنا، حقوقا إنسانية طال حرمانهم منها بما فيها الحق في الثقافة (بغير تمييز) والارتقاء بأذواق الناس وتعليمهم كيف يحصلون علي المُتع الراقية التي لم تكن متاحة إلا لحفنة قليلة جدا من المتخمين بالثروة، ولكني أعترف أن ما دفعني لكتابة هذه السطور، حادثة بدت لي دليلا ناصعا علي »الإهمال» الذي أشرت إليه في مطلع هذه السطور لمحطة إذاعية مازالت تقاوم طوفان القبح والرداءة الذي يجتاح حياتنا السمعية هذه الأيام.. واسمح لي عزيزي القارئ أن أحكي لك ملخصا وافيا للحادثة التي أقصدها: الأسبوع الماضي، وتحديدا ليلة رأس السنة الميلادية، كنت أستمع كالعادة لإذاعة البرنامج الموسيقي بينما هي تبث علي الهواء مباشرة حفلة أقامتها دار الأوبرا المصرية بمناسبة العام الجديد، كان الحفل يتضمن قطوفا رائعة من بستان الموسيقي الكلاسيكية العالمية، كنت في قمة النشوة والمتعة وأنا أحلق في أعلي سماوات الجمال والنعيم الموسيقي، وفجأة ساد صمت جليل بعد صوت تصفيق حار من جمهور الحضور، ثم سرعان ما قطع هذا الصمت صوت مذيع علي درجة ملحوظة من الثقافة والإتقان وأخبرنا نحن جموع المستمعين خارج المسرح أن الجزء الأول من الحفل انتهي وأن الميكروفون سيعود مؤقتا إلي دار الإذاعة حتي تنتهي مدة الاستراحة ويعود من جديد لنقل فقرات الجزء الثاني. غير أن ما حدث، أن الميكروفون لم يذهب إلي دار الإذاعة وإنما بقي مرتبكا في مكانه يكرر علي مسامعنا آخر ما قاله المذيع المسكين تارة، وتارة أخري ينقل ما يقوله الفنيون الموجودون في قاعة المسرح لبعضهم، وتارة ثالثة يبث إلينا الطنين العشوائي لجمهور الحفل.. بقي الحال هكذا ليس لمدة دقيقة أو اثنتين أو ثلاث دقائق، وإنما تمدد هذا الارتباك العلني المزري علي مساحة زمنية لا تقل عن نحو عشر دقائق، ثم فجأة ذهب ذاك الميكروفون الحائر إلي حيث أسمعنا (بلا مقدمات ولا اعتذارات) جزءا من مقطوعة موسيقية لا أحد يعرف أصلها ولا فصلها ولا بدايتها، واستمر هناك حتي عاد لدار الأوبرا من جديد لكي ينقل الجزء الثاني من الحفل!! لا أقصد من رواية هذه الحادثة وهذا الخطأ (المتكرر جدا) توجيه أي لوم للعاملين ولا القائمين علي أمر هذه الإذاعة العتيدة، إذ أنني، من المتابعة الدءوب لما يقدمونه، أعرف حقيقة أن أغلبيتهم الساحقة يتمتعون بقدرات مهنية وثقافية عالية جدا، لكني أوجه كل اللوم لمن تركوهم في فيافي الإهمال يكابدون قلة وضعفا مروعا في الإمكانيات، ومع ذلك مازالوا يؤدون واجبهم ببسالة، لكي لا يحرموا أمثالي من متعة روحية ثمينة يستحقون عليها كل إطراء وثناء، والتضامن أيضا.