زمان.. كانت الشعوب العربية تتضايق من عبارة »نشجب» و»ندين»، التي تعقب مؤتمرات القمة واجتماعات الزعماء المهمة.. وكان الغضب يصل أحياناً إلي حد السخرية. الآن.. »مش محصلين الشجب والإدانة»، نشجب من وندين من؟ والجسد العربي مثخن بالجراح والطعنات، مثلما قال خالد بن الوليد وهو علي فراش الموت »ما من موضع في جسدي إلا وبه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت علي فراشي كما...» لا داعي لاستكمال باقي العبارة. جسد خالد، كان توثيقاً للبطولات والانتصارات والفتوحات العظيمة.. ولكن جراح العرب بعضها من صنع العرب، عندما انشقت الأرض عن جماعات إرهابية نسبت نفسها زيفاً للإسلام، واستباحت الأرواح والأجساد، وجلست تستدفئ علي النار المشتعلة في الجثث. نشجب من وندين من ؟.. في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وغيرها من الدول التي تعاني التطرف والإرهاب.. »نشجب» الجماعات الإرهابية التي لا ينفع معها سوي سيف القوة، و»ندين» من صنعوها وأمدوها بالمال والسلاح؟ وهل تقوي الكلمات المستكينة علي مواجهة الذئاب المتوحشة؟ لو عاد العرب إلي محطة الشجب والإدانة، فسوف يكون ذلك من علامات النصر، والعودة المأمولة إلي ما قبل الربيع العربي، وهو في الحقيقة جحيم مستعر، ألبسوه ثياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فقتل الحرية وذبح الديمقراطية وانتهك حقوق الإنسان. صرنا نحلم بقيمة عربية، تؤكد أن الجسد العربي ما زالت فيه الروح، حتي لو اختلف الزعماء كما كانوا يختلفون، وتشاجروا كما كانوا يتشاجرون، فالمهم أن يضعوا ملفاتهم الساخنة علي الطاولة، ويتصارحوا حول واقعهم المؤلم، ويتصالحوا حول »الحد الأدني» الذي يمكن التوصل إليه. الحد الأدني لعودة الروح إلي العمل العربي المشترك، هو أن تتكاتف الجهود وتخلص النوايا، ضد الوحش المفترس المسمي الإرهاب، وأثبتت تجارب السنوات المريرة الماضية أن »من يحضِّر العفريت لا يستطيع أن يصرفه»، وأن الدول التي تحتوي الإرهابيين اتقاء لشرهم أو لاستخدامهم ضد آخرين، لا أمان لهم، ويرتد إليها نفس الوحش، وينهشها بأنيابه وأظفاره. الحد الأدني هو مساعدة الدول المنكوبة علي استرداد جيوشها الوطنية وتقويتها، وتدعيم قدرتها علي مواجهة الذئاب، والقضاء علي سطوة الميليشيات واسترداد العواصم والمدن والأقاليم، فلن تقوم قائمة لأي دولة عربية، إلا إذا أعادت بناء جيشها الوطني، ليدافع عن أرضها وشعبها وليس للاعتداء علي الآخرين. الحد الأدني هو احترام إرادة الشعوب في اختيار من يحكمها، وعدم التدخل في شئونها أو فرض الوصاية عليها، فقريش أدري بشعابها، وليس نظريات الديمقراطية المحمولة جواً الآتية من الغرب، علي رخات الصواريخ وانفجارات القنابل. أظن أن الشعوب العربية صارت مقتنعة بأن الفوضي سر الخراب، وأن حروب »الفناء الذاتي»، لن تثمر ديمقراطيات فاضلة، وأن العودة إلي أحضان الدولة الوطنية هي المنقذ والملاذ، وأن من يشرب زجاجة الدواء مرة واحدة، يحكم علي نفسه بالموت وليس الشفاء. في زمن الشجب والإدانة، كان نزار قباني يتحسر علي أحوال العرب، وكتب قصيدته الشهيرة: متي يعلنون وفاة العرب »أنا منذ خمسين عاماً، أحاول رسم بلاد تسمي مجازاً بلاد العرب.. وحين انتهي الرسم ساءلت نفسي: إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب.. ففي أي مقبرة يدفنون؟.. ومن سوف يبكي عليهم.. وليس هنالك حزن، وليس هنالك من يحزنون»؟. تري.. لو كان نزار حياً في زمن داعش والنصرة والقاعدة وغيرها.. ماذا كان يكتب ؟