آخر شيء كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات يتصوره وهو يوقع إتفاقية "كامب ديفيد"، هو ان سعف النخيل يمكن ان يحرق الاتفاقية التي قيل وقتها انها مجلس العزاء الرسمي لآخر الحروب العربية مع الكيان الصهيوني باعتبار ان حرب أكتوبر هي آخر الحروب. لقد فوجئ ملايين المصريين والعرب بان مصر كانت تصدر سنوياً الي ما قبل أيام قليلة الي "اسرائيل" كميات كبيرة من سعف النخيل الذي يستخدمه اليهود في احتفالات "عيد المظال" في شهر اكتوبر، وهو عيد يستمر أسبوعاً لإحياء ذكري خيمة السعف التي أوت العبرانيين في العراء أثناء الخروج من مصر. وانتهزت وزارة الزراعة المصرية الأزمة الامنية الأخيرة بين مصر والكيان الصهيوني وغضب القاهرة من جريمة قتل بعض العسكريين المصريين علي الحدود بين الجانبين لتعلن حظر قطع وتصدير أغصان النخيل وسعفه الي تل أبيب لمدة عامين ابتداء من العام الحالي "حفاظاً علي ثروة مصر من النخيل باعتباره ثروة قومية مهددة بالتناقص". وأوضح خبراء الوزارة ان قطع سعف النخيل وخاصة الجزء اللذيذ في قلب النخلة يؤدي الي موت أكرم أشجار الطبيعة. ونحن في العراق نسمي قلب النخلة ب "الجُمّار" واعتدنا رؤية بعض باعته في موسم معين في المدن العراقية وهم يبيعون شرائح منه الي الناس علي الارصفة. وللجُمّار طعم لذيذ ونظارة ملفتة دفعت بعض الذواقة الي إطلاق اسمه علي بناتهم رغم ان الجُمّار يصلح لتسمية الذكور والاناث. وشاهدت منذ عامين بائعا يبيع الجُمّار وبعض أجزاء النخيل في حي مصر الجديدة وفهمت ان الأخوة المسيحيين يستخدمون ذلك في أحد أعيادهم الدينية.. وكل عام وهم بخير. وكانت صحيفة "معاريف" الصهيونية قد كشفت ان النظام المصري السابق سمح بتصدير كميات ضخمة من السعف الي "اسرائيل" لان انتاجها المحلي محدود ولا يكفي لتقاليد اليهود بتزيين منازلهم وشوارعهم بالسعف في "عيد المظال". ودفع الأمر وزيرة الزراعة في تل أبيب الي ارسال خطاب الي وزير الزراعة المصري تطالبه فيه برفع الحظر والسماح بتصدير السعف مثلما كان يحدث في ظل نظام مبارك منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وتقول تقارير زراعية ان الخبراء اليهود نجحوا في نقل سلالات ممتازة من النخيل العراقي والمغربي والسعودي والمصري والايراني واستزرعوها ثانية داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة، بل وأقاموا مصانع تعليب للتمور تولت تصدير "التمر الاسرائيلي" الي أوربا مثلما صدروا البرتقال الفلسطيني باعتباره "برتقالاً اسرائيلياً" والحمص بطحينة اللبناني باعتباره اسرائيلياً والطعمية المصرية باعتبارها اسرائيلية! لكن سعف نخيل الاراضي المحتلة لا يكفي لتغطية الطلب المحلي عليه، فاضطرت تل أبيب الي الاتفاق مع النظام المصري السابق لاستيراد سعف مصري بالملايين. وهو أمر ظل طي الكتمان والسرية المشددة الي ان سقط النظام السابق وفاحت رائحة الفساد. وأخشي ما أخشاه، كما يقول الممثلون في المسلسلات الدينية والمطرب الجميل محمد ثروت، ان يقرأ هذا الكلام فاسد من الفاسدين الذين يعج بهم "العراق الجديد"، فيبادر الي حل المشكلة اليهودية بتصدير ملايين من سعف النخيل العراقي الي تل أبيب مع عبارة "كل عام وانتم بخير"، فيضطر الشباب العراقي الثائر علي النظام الطائفي الي الخروج في مظاهرات الجمعة للمطالبة بمنع تصدير السعف رافعين لافتات تقول: "وا سعفاه" علي طريقة "وا معتصماه"! وترد حكومة المالكي باصدار بيان لوذعي تتهم فيه "القاعدة وأزلام صدام" بمحاولة القضاء علي نخل العراق! والسعف العراقي واحد من أفضل أنواع السعف لان خضرته ونظارته تظلان فترة أطول من غيره قبل أن يبدأ بالجفاف. ويقطع الفلاحون العراقيون سنوياً عشرات الملايين من سعف النخيل، ليس لتصديره الي أي بلد، ولكن لاستخدام بعضه في التدفئة وتشييد العشش والاكواخ الريفية وبعض الصناعات اليدوية كالخوص والحقائب والكراسي والسلال والمكانس والمراوح اليدوية والحصير، بينما تذهب الكميات الأكبر الي المزابل والتلف. ويعرف كثيرون ان سعف النخيل يمكن ان ينتج نوعاً من أفضل أنواع الزيوت النباتية. وتقوم ماليزيا فعلاً بانتاج وتصدير زيوت النخيل وهي موجودة فعلاً في الأسواق العربية. ولا أعرف في الواقع لماذا لا تلجأ الدول العربية المنتجة للتمور الي صناعة زيوت الطهي من سعف النخيل. وللمعلومات فان الولاياتالمتحدة التي تعتبر واحدة من أكبر منتجي التمور في العالم، وكثير منها يحمل أسماء عراقية مثل الخضراوي والساير والبرحي ، لديها صناعات تحويلية مهمة في استخدامات السعف والنوي. وبالمناسبة فان بلح البرحي الممتاز الذي بدأت مصر بانتاجه في السنوات الأخيرة هو من أصول عراقية في البصرة، وهو واحد من أفضل وأغلي التمور في العالم. الا ان العالم لا يعرف ان العراقيين سبقوا الكون كله في اكتشاف أفضل طريقة لتعليم السباحة وهي ربط قطعة من "جريد" النخيل علي كل ساعد خلال السباحة! وقد جربت ذلك في طفولتي ولا أزال حتي اليوم لا أعرف السباحة!